عولمة البحث العلمي في ضوء الاتجاهات المعاصرة

عولمة البحث العلمي في ضوء الاتجاهات المعاصرة!

الدكتورة ليلى مفتاح فرج العزيبي، دكتوراة الفلسفة في القيادة التربوية

شهد التعليم العالي في الألفية الثالثة جملة من التغيرات نتيجة تأثره بتداعيات العولمة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والتقنية، والتي تمثلت في مظاهر عديدة دفعته إلى الخروج من عزلته المحلية والانفتاح على دول وشعوب العالم، كما أن صعود قوى السوق ونشوء سوق عالمية للرأسمال الفكري والبشري المتقدم، يفرضان على نظم التعليم ضرورة الملاءمة والتطور، لمواجهة التحديات الجديدة، فالجامعات العربية مهددة بخطر التهميش مستقبلاً في الاقتصاد العالمي المعرفي التنافسي، ما لم تطور نظم تعليمها وتوجهها نحو الاستثمار في رأس المال البشري وإنتاج المعرفة، لتحسين قدرتها التنافسية في الاقتصاد العالمي القائم على المعرفة.

وفي ظل هذا المناخ العالمي الجديد للتعليم العالي عابر القارات، ومع التقدم الهائل الذي تشهده جامعات الغرب في كافة مجالات العلوم وتسابقها على التصنيفات العالمية، لم يعد دور الجامعة قاصرًا على الوظائف التقليدية المرتبطة بتقديم المعارف ونقلها. بل أصبحت هناك ضرورة ملحة إلى توافر رؤية جديدة على صعيد التعليم المجتمعي، تجمع بين العالمية والملاءمة، بهدف استجابة التعليم الجامعي لمتطلبات المجتمع المحلي الذي يعيش في كنفه، وإقامة علاقات وطيدة مع الوسط الدولي للوصول إلى العالمية.

وفي هذا السياق، تشير العزيبي (2021) إلى أن التعليم العالي في ظل هذه التغيرات أصبح صناعة عالمية،  ولعل ما سبق يفسر الاهتمام العالمي بقضية تدويل البحث العلمي، فقد أوصت دراسة Internationalization of Higher Education (EDU, 2016) على ضرورة إضفاء البعد الدولي على أنشطة البحث العلمي، وذلك بإيجاد استراتيجية بحثية تمتد لما هو أبعد من مجرد نشر نتائج البحوث عبر شبكة الاتصالات الدولية، وربط هذه النتائج بالمبدعين الدوليين للمعرفة الجديدة، وذلك من خلال إنشاء مراكز البحوث التخصصية والدولية والمشروعات البحثية المشتركة ومشروعات التعاون الدولي، وورش العمل والندوات الدولية التي تعقدها الجامعة سنويًا، وبرامج تبادل الباحثين والمنح والخدمات البحثية، والاستشارية الدولية، وتبادل المحاضرين والباحثين الزائرين والمقالات والأوراق البحثية المنشورة.

وأكدت دراسة كوريل ودودي، ورايت، ونوقي (Coryell, Durodoye, Wright, Pate, and Nguyen,2016)  والتي أجريت في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أن من الإجراءات الفعالة لتدويل مؤسسات التعليم العالي هي التركيز على المحاور الأربعة الرئيسة ( تدويل أنشطة البحث العلمي، تبادل الطلبة  والباحثين، تدويل المناهج، تطبيق برامج الدراسة بالخارج).

وقد ذاع العديد من التوجهات الاستراتيجية العالمية في مجال عولمة البحث العلمي، وتم تطبيقها في ممارسات أغلب جامعات الدول الأجنبية التي حظيت بمكانة مرموقة في مجال البحث العلمي على نطاق واسع، وطبقت في بعض الدول العربية في نطاق محدود. ويمكن استعراض أبرز تلك التوجهات على النحو الاتي:

الشراكة لإنشاء شركات ومراكز أبحاث وتطوير علمية داخل وخارج الجامعات:

باستقراء الأدبيات المتعلقة بالتوجهات العالمية، تبرز تجربة الولايات المتحدة من أعظم التجارب، إذ تنوعت أشكال الممارسات التي تقوم بها وتنوعت أساليبها. فكما أكدت دراسة العزيبي (2021) أنه انتشر العديد من الممارسات لإنشاء الشراكات في الولايات المتحدة ومنها إقامة الحاضنات التكنولوجية الذي اُستحدث لتشجيع الابتكار ونقل التكنولوجيا.

كما وقامت الجامعات الأمريكية بإنشاء “حاضنات للمعرفة والتكنولوجيا” من خلال تعاون وثيق بين الجامعات ومؤسسات الصناعة، و يقوم فريق مهني متخصص بإدارتها؛ بهدف توفير خدمات بقيمة مضافة؛ لغرض رفع تنافسية المنطقة أو الدولة. على سبيل المثال مثل منطقة وادي السليكون بولاية كاليفورنيا، التي أقيمت نتيجة الشراكة بين جامعة استانفورد ومؤسسة هاوليلدباكارد الصناعية. كما وقامت أمريكا بمبادرة الجامعات المبدعة، إذ تم تصنيف (12) جامعة مبدعة نتيجة لتميزها عن غيرها في كثافة علاقاتها وتحالفاتها مع العديد من الشركات العالمية.

كما وتشير العزيبي (2022) إلى تجربة الصين في هذا المجال، إذ قامت الصين في هذا المجال بإطلاق “مشروع 211” الذي هدف لتطوير 100 جامعة صينية، وتطبيق فكرة امتلاك الجامعات لشركات خاصة تقوم بتقديم الخدمات وعمل المشروعات خارج إطار الجامعة، وفي هذا الإطار قامت بتحويل اتجاهات البحوث العلمية إلى التطبيقات في مجالي الاقتصاد والصناعة. إذ قامت بتنفيد برنامج قومب يعرف بـ (Torch) يهدف إلى إقامة الحظانات والحدائق، والقواعد الصناعية. والمراكز البحثية، وبرامج التمويل الخاصة.

وتنوعت تجارب الجامعات البريطانية في هذا المجال، إذ يتم إنشاء مراكز البحوث داخل الجامعات كما في جامعة ستراثكليد بإنجلترا، أو خارج الجامعة كشركة أرثر ديتل والتي تقوم بتوظيف البحوث التطبيقية ونقل التكنولوجيا لتطوير الإنتاج. وكذلك مركز مانشستر يقوم بالتسويق وبيع تراخيص حقوق الملكية وإدارة العقود المختلفة الخاصة بمجالات البحث والابتكار والتكنولوجيا (العزيبي، 2021).

مراكز الاستشارات والدراسات: في هذا المجال تقوم الجامعات بخدمة قطاع الصناعة من خلال المكاتب المشتركة بين رجال الصناعة وأعضاء الهيئة التدريسية، وذلك لتشجيعهم بالقيام بأبحاث ترتبط بخدمة المجتمع وحلحلة مشكلاته مقابل مكسب مادي. وتطبق تلك الممارسات بالجامعات البريطانية والتي ساهم في تقدم المجتمع البريطاني.

الشراكة في مجال التعليم التعاوني والتدريب والبحث الميداني: وتتمثل في المبادرات التي تقدمها الجامعات العالمية وتتواجد من خلالها في مواقع العمل الصناعية والتقنية، وبذلك يقوم أعضاء الهيئات التدريسية بالعمل في تلك الشركات لفترة محدودة، من خلال عقد شراكة لتحقيق أهداف بحثية ميدانيًا على أرض الواقع والاستفادة من المعامل والمختبرات والمرافق البحثية التي تملكها الشركات، ويقدموا من خلال أبحاثهم ما يفيد الشركات،. كما يقدموا لطلابهم نماذج تدريبية وتدريسية وعلمية بصورة تطبيقية بدلًا من تقديم نظريات مجردة. وعلى سبيل المثال تدعم تدعم جامعة نورث إيسترن (North Eastern) بالمملكة المتحدة، ومؤسسة بيروفس (Berufs) بألمانيا.

برامج الكراسي العلمية: وتتم داخل الجامعات باسم رجال الأعمال والمؤسسات ورعايتهم، وتهدف إلى دعم الأبحاث والدراسات التي تخدم الغرض الي أقيم من أجله الكرسي. كما في السعودية والإمارات.

إبرام العقود البحثية والشراكات: وتتم بين الجامعات مع بعضها وبين مؤسسات المجتمع الصناعية، إذ يتم فيها ربط البحوث بحلول وإنتاج خدمات تقنية تدعم الإبداع. مثل تعاون الغرف التجارية مع بحوث الدراسات العليا بالجامعة التي تقوم بحل مشكلات القطاع الإنتاجي من خلال إنتاج بحوث تطبيقية. مثل ما قامت به مصر في 2015م بمذكرة تفاهم بين جامعاتها والجامعات البريطانية؛ لدعم الشراكة الاستراتيجية طويلة المدى في مجال البحوث والابتكار والتعليم بين الطرفين إذ يتم ربط الجامعات ببعضها.

شراكات البرامج القومية: إذ تقوم مشروعات بحثية بين الجامعات والتعليم العالي تخدم أهداف قومية، كما في تجربة فلندا والتي كان لها دور إيجابي في التحول إلى مجتمع المعرفة من خلال تكامل خطة التعليم العالي والخطة الاقتصادية للحكومة. وتم تنفيدها من خلال الشركات مع الشركات لتصميم هذا البرنامج (عيد، 2020).

النشر الإلكتروني: إذ يتم تحويل المنتج الفكري والعلمي لأكثر من شكل رقمي كالكتاب الإلكتروني، والدوريات الإلكترنية، والمجلات الإلكترونية….وغيرها. وإتاحتها للجمهور. وكذلك يسهم في تسويق الأبحاث ونشر نتائجها وإنجازاتها والمساهمة في ترويج تطبيقاتها في جميع أنحاء العالم بسرعة فائقة، وبالتالي الاتجاه لعولمة البحث العلم بنتاجه المتعدد..

أوجه الاستفادة من تلك الاتجاهات:

تنوع مصادر التمويل للجامعات من خلال الشركات ومساهمة القطاعات الإنتاجية في تمويل البحث العلمي وتوفير مستلزماته، وتطبيق الجامعة المنتجة.

الاهتمام بالبحوث التطبيقية، والبحوث التي من شأنها حلحلة مشكلات المجتمع وقطاعاته الإنتاجية والعمل على نقل التكنولوجيا.

الاهتمام بدور خبراء القطاعات الإنتاجية في المجالس واللجان الجامعية.

الاهتمام بإقامة مراكز بحوث داخل الحرم الجامعي، وكذلك شركات إنتاجية تتبع الجامعة ويعود ربحها للجامعة.

أهمية وضع خطط وسياسات للبحث العلمي تعمل على التحول في أهداف الجامعات ومخرجاتها، إذ يؤكد على تخريج مواطنيين منتجيين وفاعليين بدل من مهنيين.

التواصل العلمي بين الجامعات في البلد الواحد محليًا وإقليميًا وعالميًا.

التوسع في فكرة الكراسي العلمية وحاضنات الأعمال ومراكز التميز على مستوى الجامعات.

الاهتمام بالمنصات الإلكترونية للتمويل والصناديق الاستشارية، ورأس المال المخاطر، وتوعية الطلبة المبتكرين والمبدعين، والعلماء بكيفية التواصل والتعامل معها.

المصادر:

إبراهيم زكريا، “تفعيل دور البحوث التربوية لتحقيق استراتيجية التنمية المستدامة للبحث العلمي (رؤية مصر 2030)،” مجلة البحث العلمي في التربية، ص67-98.

صديق أسماء، “رؤية مقترحة لتدويل البحث العلمي في الجامعات المصرية في ضوء خبرات بعض الدول،” مجلة كلية التربية بنها، ص 107- 162.

عيد هالة، “نحو استراتيجية مقترحة لعولمة البحث العلمي واستثماره في ضوء التوجهات العالمية،” المجلة التربوية، ص 125-192.

العزيبي، ليلى مفتاح (2022). سياسات تربوية مقترحة لتدويل الجامعات الليبية في ضوئ تجارب الدول المتقدمة، إطروحة دكتوراة غير منشورة، الجامعة الأردنية، كلية التربية، الأردن.

العزيبي، ليلى مفتاح (2021). معضلات التعليم العالي تشخيص، إصلاح مقترحات تطويرية، عمان: الأردن، دار الإسراء، ودار الرواية العربية للنشر والتوزيع.

العزيبي، ليلى مفتاح (2017). إضاءات حول الثقافة الصحية والصحة المدرسية، عمان: الأردن, دار وائل للنشر والتوزيع.

Al-Tarhwny, Abdallah Wanys (2016). “Reviews of Higher Education Policies in Libya,” Organization for Economic Co-operation and Development (OECD), https://sada.ly// , Access date 14/12/2020.

Hyjazy Hana, ” A suggested vision for the activation of social responsibility in the Egyptian universities,” Journal of Faculty of Education (Bnha University, Egypt, Issue. 120, Volume 30, 2020), P. 233-257 .

 

 

 

 

 

 

 

مواضيع ذات صلة