الجامعة الأردنيّة…لمع البوارق

الأستاذ الدّكتور عمر عبد الله أحمد الفجّاويّ، أستاذ الأدب الجاهليّ في الجامعة الأردنيّة

لقد تأكّد لكل مُجالس ومُدارس، وذاهِن وهاجس أنّ الأنام حين تَكْتَئِدُهم العِقَابُ، أو تحِلّ بهم عِظام النّازلات، يفزَعون إلى غِياث من البَرِيَّة يُلفونَ عندهم كريمَ الملتجأ، وعزيز الملتَحَد، فيَرَوْنَ منهم ما يُفِيئُهم إلى سبيل الرّشاد، وفجّ من الحقّ عميق، أو يستمعون إلى الرّجيج من الرّأي الّذي يبلّغهم السّداد ليكونوا من غليظ العذاب بمَفازة ومنجاة.
وهذا ما انجبل عليه ذوو البصائر، وفُطِر عليه أولوا النّهى والحِجى، فقد رأيناهم في زماننا وهم يَنْهَدُونَ إلى تلقّي العلوم منذ النّشأة الأولى لدولتنا الأردنيّة الهاشميّة السَّنِيَّة في مدارسها، في سنّ الطلب الابتدائيّ، ثمّ يبرحون الأردنّ إلى الآستانة أو دمشق أو بغداد أو القاهرة، لينهلوا المعارف من جامعاتها، حتّى إذا كثر أولئك النّفر، شاءت القيادة الهاشميّة الرّاشدة أن تَبْتَنِيَ للأردنيّين جامعة تكون لهم مثابة وأمنًا، فكانت الجامعة الأردنيّة، وها هي ذي وقد مضى عليها حين من الدّهر، أضحت دعائمها أعزّ وأكمل.
يسمع السّامع بهذه الباذخة، فتعتريه الرّعدة والقشعريرة، لما وُهِبَت من المهابة والوقار، فيأتي إليها وهو يَزِفُّ، ويتلامح له من بعيد بابها الـمُقَبَّب، ويكسو دَوْحَتَها باسق الأشجار، والسّرو يكنُفها كسوار التفّ حول معصم، وكأنّها تحاكي مَشِيدَ القصور، ثمّ يدنو ، ووَجيب الفؤاد في ازدياد، لما لها من المكانة في النّفس، ورجع صوت السّاعة فيها له في القلب إرنان، وكأنّها بنيت من طالعات الأنجم أو شمّ الجبال.
ويسير السّائر فيها ممتِّعًا ناظريْه، وقد أخذت زخرفها، وازّينت عَرَصَاتها، وأنبتت من كلّ زوج بهيج، فلا تقع العين فيها إلّا على ما يشرح الصّدور، فهي مطمح الأنفس، ومسرح التّأنّس، وتستبيك مبانيها وكلّيّاتها، يَزِينُهنَّ جلال العتق والقِدَم، إذ مضى على تأسيسها زيد على ستّين كُمَّلٍ، وغدُها لا يَشبِه يومَها، ويومُها لا يشاكِهُ أمسَها، فهي في مركب الحداثة سائرة، وإلى مراقي العزّة القعساء صائرة، وفي معارج السّموّ متوجّهة، وقد مخّض الله السِّنين لها، فجاءت زبدة الحقب.
وما أحلاه للمتبصّر والمتوسّم منظرًا ومَقيلًا، ومنسوبوها من الأساتيذ والطّلبة والعاملين عليها، وهم من كلّ حَدَب ينسلون في ضحوة كلّ يوم، وقد علم كلّ أناس مسترادهم، حتّى أمست الأردنيّة اسمًا كالطُّغَراء، تتحلّى بذكره الألسنة، وتكتحل به العيون، فما إن يقال: الأردنيّة، حتّى تنقدح الفِكَر من دون ذكر لفظة الجامعة؛ لأنّ لها في النّفوس عظيم الشّمائل وكريم الخصال.
وحين تدلهمّ بنا الخطوب، ويتكدّر الزّمان، ويحزبنا الجُلال من الأمور، فإنّ الأردنيّة الجامعة هي الّتي تكون لـَمْعَ البوارقِ في السّحاب المظلم، فهي الّتي تنير حالك الليل البهيم الأليل، وتزجي أقباسًا من أنوارها لتضي العَتَمات، وقد جادت على الأردنّ والعالم بألوف من الخرّيجين يملأون الرُّحب، بعدما تلقَّوْا فيها نافع العلم، واستمعوا إلى رفيع القول من كبراء الأشياخ، الّذين تجد واحدهم ناذرًا نفسه من أجل حلّ عويصة من المسائل، وثانيَهم ساهرًا مقلّبًا دفاتره وممحِّصًا، وثالثهم وقد أزمع سفرًا يذرع فيه فضاء الله ليلقي ما انتهى إليه من بحث ودرس في مؤتمر، ورابعهم يقيم الليل ويقعده في مختبره، ولم يَزِغ لهم بصر، ولم ينطفئ لهم سراج، بل قناديلهم قد حشيت الذّبال المفتَّل.
فليهنأ الأردنيّون بجامعتهم الأردنيّة، فهي سِمط من لؤلؤ وزبرجد، وإنّ زائرها ليجد فيها الرّواحة والدّعة، ولا تنمحي ذكراها من خَلَدِه، ويأخذه التّيه فخرًا بها وزهوًا، ومهما أوتي المرء من فصاحة التّعبير، فإنّ يَراعَتَه لكليلة، وبراعته ضئيلة، أمام نعمة الجامعة الأردنيّة.

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *