ماهية علم الاجتماع التربوي
ماهية علم الاجتماع التربوي
د. حسام الدين فياض، الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة، قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً
يرى العلامة ابن خلدون (1332-1406) أن الاجتماع الإنساني ضروري باعتبار الإنسان ” كائناً اجتماعياً مدنياً بطبعه “. أي أنه يعيش ويقضي معظم وقته في تجمعات بشرية، يؤثر فيها ويتأثر بها، ويتحدد سلوكه الاجتماعي بناءً على الأنماط والمعايير والقيم التربوية، والثقافية، والاجتماعية، التي تلقاها في مراحل حياته المختلفة بوصفه عضواً فاعلاً ومنفعلاً في التجمع الإنساني.
تعود الأبحاث الأولى حول علم الاجتماع التربوي إلى أواخر القرن التاسع عشر للميلاد، التي عمل على وضعها مجموعة من الفلاسفة، وعلماء الاجتماع من أشهرهم عالم الاجتماع الفرنسي اميل دوركايم (1858-1917) الذي قام بوضع مجموعة من المؤلفات حول علاقة علم الاجتماع بالتربية، حيث شكلت أعماله السوسيولوجية على مستوى المنهج والنظرية والممارسة الأكاديمية، المخاض الأول لولادة السوسيولوجية التربوية. وتعد المحاضرات الأولى التي ألقاها دوركايم في السوربون والتي بدأت عام 1902 بمثابة اللحظات الأولى التي بدأ فيها علم الاجتماع التربوي يأخذ صيغته ومنحاه. وفي سياق متصل ينظر النقاد إلى عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864-1920) بوصفه أحد رواد النظرية السوسيولوجية في مجال التربية، ومع أن فيبر لم يكرس لاجتماعيات التربية عملاً متخصصاً، إلا أنه يمكننا العثور على نسق من أفكاره التربوية في كتابه ” الاقتصاد والمجتمع “، ولا سيما عندما يتعرض لمسألة العلاقة بين الأنماط المثالية للسلطة والأنماط المثالية للتربية. وفي عام 1962 صدر أول كتاب بعنوان “علم الاجتماع التربوي” للمؤلف بيير جاكارد Pierre Jaccard يحتوي على أفكار علماء الاجتماع السابقين، وعلى مجموعة من الدراسات المستحدثة التي اعتمدت على تطوير الدراسات السابقة في مجال علم الاجتماع التربوي، والتي أدت إلى صدور العديد من الكتب والمؤلفات حول علم الاجتماع التربوي بين عامي 1971- 1974.
ومع نهاية القرن العشرين، أصبح علم الاجتماع التربوي من العلوم المهمة، سعى العديد من علماء الاجتماع لدراسة الموضوعات الخاصة به، أهمها: تأثير التربية على المجتمع، وتأثر التربية بالمؤثرات الخاصة بالمجتمع، والتي تختلف بين شعوب العالم، لأن كل مجتمع ينظر إلى الأسس التربوية نظرة مختلفة عن المجتمعات الأخرى، وذلك بسبب الاعتماد على العادات، والتقاليد الشائعة التي تؤثر تأثيراً مباشراً على التربية الاجتماعية.
يسعى تخصص علم الاجتماع التربوي Educational Sociology إلى بحث الوسائل التربوية التي تؤدي إلى نمو أفضل للشخصية، لأن الأساس في هذا الميدان هو أن التربية عملية تنشئة اجتماعية. لذا فإن علم الاجتماع التربوي يبحث في وسائل تطبيع الأفراد بحضارة مجتمعهم. كما يحاول دراسة أثر الظاهرة التربوية في بعدها الاجتماعي على الظواهر الاجتماعية الأخرى من سياسية، واقتصادية، وثقافية هذا من جانب، ومن جانب آخر يحاول أيضاً دراسة أثر العمليات الاجتماعية على الظاهرة التربوية بهدف رصد المتغيرات التي توثر سلباً أو إيجاباً في العملية التربوية.
وفي الآونة الأخيرة، اكتسب النظام التربوي أهمية قصوى في المجتمع الحديث، حيث يزداد ارتباط هذا النظام ببقية النظم الاجتماعية الأخرى في المجتمعات المعاصرة، فكلما سار المجتمع في طريق التحديث أصبحت عملية التنشئة الاجتماعية والتربوية والنظم التعليمة أكثر تعقيداً أو تبايناً وأشد اتصالاً ببقية نظم المجتمع الأخرى، وبالأخص السياسية منها، الأمر الذي أصبح معه النظام التربوي محوراً من محاور اهتمام علماء الاجتماع.
ومن خلال إدراكنا لأهمية التربية في الحياة الإنسانية ودور الاجتماع الإنساني بتأثير عليها. سنحاول الاطلاع على تلك العلاقة فيما بينهما من خلال تخصص علم الاجتماع التربوي الذي يتكون من تتداخل تخصصين، هما: ( علم الاجتماع والتربية ) بهدف دراسة الظاهرة التربوية كظاهرة اجتماعية ونظام اجتماعي تقوم بدور تنشئة وإعداد أفراد المجتمع من النواحي الجسمية والعقلية والأخلاقية والثقافية والاجتماعية والسياسية.
ويعد علم الاجتماع التربوي أحد الفروع الهامة لعلم الاجتماع العام إن لم يكن أهمها على الإطلاق. ويعتبر التعريف بعلم الاجتماع العام المنطلق الموضوعي لتعريف علم الاجتماع التربوي وتحديد موضوعاته ومجالاته ومداخله النظرية والمنهجية.
لذا يتوجب علينا أن نقدم لمحة سريعة عن مفهومي علم الاجتماع والتربية بوصفهما السياق العام لنشوء علم الاجتماع التربوي. لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا ما هو مفهوم علم الاجتماع التربوي؟ بخلاف النظرة التقليدية سنحاول استعراض بعض التعاريف التي تشكل جوهر فهمنا لمفهوم علم الاجتماع التربوي، بالاعتماد على عمليتي التحليل والتركيب كأساس منهجي، مما يؤدي بنا حُكماً إلى الإحاطة بكل جوانب المفهوم المطلوب دراسته، فهماً وتحليلاً وتفسيراً، وهي كالآتي:
1- المعرفة: هي ” مفهوم شامل وعام بكل ما يحيط بالإنسان من أحكام وتصورات ومفاهيم ومعتقدات في مختلف مجالات النشاط الإنساني “.
وعليه فإن المعرفة أشمل وأوسع من العلم، إذ يبقى العلم يقوم على دراسة وتحليل الظواهر، وهو جزء من المعرفة. كما أنها تتضمن مختلف الجوانب الإنسانية وفي شتى المجالات والتخصصات. لكن للعلم شروطاً لا تتوافر في كل معرفة، لذا نقول: ” إن كل علم معرفة وليست كل معرفة علماً “.
– أنواع المعرفة: تنحصر أنماط المعرفة في ثلاثة أنواع، وهي كالآتي:
-
المعرفة الحسية: هي المعرفة التي تتم عن طريق الحواس، وهذا النوع من المعرفة يقتصر على مجرد الملاحظة البسيطة.
-
المعرفة الفلسفية: هي المعرفة المستمدة عن طريق التأمل والتفكير بقضايا ومسائل ما وراء الطبيعة.
-
المعرفة العلمية: هي المعرفة التي تقوم على الملاحظة المنظمة وفرض الفروض وإجراء التجارب العلمية وجمع البيانات وتحليلها، للتأكد من صحة الفروض أو عدم صحتها بهدف الوصول إلى القوانين.
2- العلم: ” هو الإدراك الذي يعتمد على الملاحظة المنظمة للأحداث والظروف الطبيعية من أجل اكتشاف الحقائق عنها، ومن أجل صياغة القوانين والمبادئ التي تعتمد عليها هذه الحقائق “.
3- المنهج العلمي: ” هو الطريقة العلمية التي يتبعها الباحثون للوصول إلى الحقائق في العلوم المختلفة بهدف صياغة القوانين العلمية “.
4- المجتمع: ” هو مجموعة من الأفراد والجماعات تعيش في موقع جغرافي واحد وتربط بينها علاقات اجتماعية وثقافية ودينية واقتصادية “.
5- الاجتماعي: ” هو مجموعة من الأفراد يربط بينها رابط مشترك يجعلها تعيش عيشة مشتركة تنظم حياتها في علاقات منظمة معترف بها فيما بينهم “.
6- التربية: ” عملية تنمية الشخصية الإنسانية في شتى جوانبها الجسمية، والعقلية، والنفسية، والاجتماعية، وهذه العملية تتم من خلال المؤسسات التربوية القائمة بغرض تحقيق التوافق والمشاركة الفاعلة لأفراد المجتمع في تنمية مجتمعاتهم “.
7 – مفهوم علم الاجتماع : ” هو ترجمة لكلمة (Sociology) الإنكليزية المشتقة من الأصل اليوناني واللاتيني المكون من مقطعين أساسيين هما:(Socio): وتعني المجتمع،(Logy) وتعني العلم أو البحث، بذلك يصبح معناها علم الاجتماع “. ويمكننا تعريفه بأنه ” الدراسة العلمية للمجتمع وما يسود فيه من ظواهر اجتماعية مختلفة دراسة تعتمد على أسس البحث العلمي بغية التوصّل إلى القواعد والقوانين العامة التي تحكمها بهدف توضيح وتحليل وتفسير الارتباطات المختلفة القائمة بينه “.
من خلال ما تقدم يمكننا تعريف مفهوم علم الاجتماع التربوي على أنه:
– العلم الذي يستخدم نظرية علم الاجتماع وطرائقه ومبادئه في دراسة قضايا التربية ونظريتها.
– الجانب التطبيقي من علم الاجتماع.
– الدراسة العلمية للظاهرة التربوية باعتبارها ظاهرة اجتماعية في سياق حركتها وتفاعلها مع الظواهر الاجتماعية الأخرى.
وفي النهاية يمكننا القول: ” هو فرع من فروع علم الاجتماع العام يدرس أثر الحياة الاجتماعية على العملية التربوية، وأثر العملية التربوية على الحياة الاجتماعية تحليلاً وتفسيراً ونقداً بالاعتماد على الأسس النظرية والمنهجية لعلم الاجتماع العام“. أو ” هو العلم الاجتماعي الذي يدرس الظاهرة التربوية باعتبارها ظاهرة اجتماعية في مناحيها المتعددة، وفي إطار تفاعلها مع الواقع الاجتماعي“.
بذلك يعتبر علم الاجتماع التربوي مزيج مختلط من علم الاجتماع والتربية. فالعملية التربوية جزء لا يتجزأ من المجتمع، وهي العملية التي تهيئ الإنسان القادر على تسيير أمور وقيادة التقدم الاجتماعي وخطط التنمية وتنفيذ مشروعاتها .وفيما يتعلق بموضوعات علم الاجتماع التربوي باعتباره فرعاً من فروع علم الاجتماع العام الذي يبحث في علاقة الأطر التربوية ومؤسساتها بالواقع الاجتماعي، فإنها تنحصر بما يلي:
1- دراسة الظاهرة التربوية كظاهرة اجتماعية، من خلال العلاقة الجدلية القائمة بين التربية، والمجتمع. بالإضافة إلى دراسة العملية التربوية ووظيفتها في المجتمع من حيث ( برامجها، وأساليبها، أهدافها ).
2- إصلاح المجتمع، أي استخدام التربية والمؤسسات التربوية لإصلاح المجتمع وتقدمه من خلال إعداد الأفراد لمواجهة المستقبل إعداداً ثقافياً وحضارياً لزيادة مستواهم الفكري والاجتماعي لدفع عملية التقدم الاجتماعي.
3- تحديد أهداف تربية المجتمع، تحديد ما يجب أن يُنقل للأجيال من تراث حضاري لرفع المستوى الثقافي للمجتمع، ويكون تحديد الأهداف من أجل غايات واحتياجات الفرد والمجتمع لوضع فلسفة تربوية مناسبة.
4- تطبيق مفاهيم علم الاجتماع العام في المجال التربوي، أي أن نأخذ المبادئ والنظريات الاجتماعية من علم الاجتماع العام ونطبقها في المجال التربوي والمواقف التربوية مثال ذلك: مفهوم ضبط المجتمع المدرسي، والتحكم في العملية التربوية.
ختاماً، لا يسعنا إلا أن نقول بأن علم الاجتماع التربوي يحتل مكانة خاصة ومتميزة في البلدان التي تعيش نقلة حضارية نوعية، إذ تجري فيها مجموعة من التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التي تستوجب إعادة النظر في الخطط التربوية والتعليمية وما يتعلق بها من ظواهر اجتماعية وثقافية خاصةً بعد تآكل دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية التقليدية لصالح وسائل ومواقع التواصل الاجتماعي، التي باتت في وقتنا المعاصر تستحوذ على النصيب الأكبر في توجيه عملية التنشئة الاجتماعية التي يستقي منها أفراد المجتمع خاصة ًالأطفال والمراهقين أطرهم ومبادئهم التربوية والاجتماعية والمعرفية.
المراجع المعتمدة:
-
حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع ( من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة التأسيس)، مكتبة الأسرة العربية، إسطنبول، ط1، 2021.
-
مصطفى عبد القادر زيادة وآخرون: الفكر التربوي واتجاهات تطوره، مكتبة الرشد، الرياض، ط3، 2006.
-
نبيل عبد الهادي: مقدمة في علم الاجتماع التربوي، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2009.
-
إبراهيم ناصر: علم الاجتماع التربوي، دار الجيل، بيروت، ط1، 1996.
-
فادية عمر الجولاني: علم الاجتماع التربوي، المكتبة المصرية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2014.