مسؤولية الجامعات في تعزيز الأمن الفكري

 مسؤولية الجامعات في تعزيز الأمن الفكري

الدكتورة ليلى مفتاح فرج العزيبي / ليبيا

يُعد الفكر البشري الآمن والوسطي والمعتدل ركيزة مهمة في حياة الشعوب، الأمر الذي يتطلب نظامًا تَرْبَوِيًّا يرسخ ثقافة الأمن الفكري داخل المجتمعات العربية بصفة عامةً والمجتمع الليبي بصفة خاصة؛ وذلك للحفاظ على الهوية العربية في ظل الثورة التكنولوجية والتطور الهائل في وسائل الاتصالات، وهيمنة العولمة. التي أدت إلى إلى ازدياد سرعة انتشار الأفكار على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي، وأصبح من السهل ترويج وانتشار الأفكار الهدامة المزعزعة للأمن الفكري، وتمهيدًا إلى الانحرافات الفكرية، والغلو والتعصب في محاولة لتحويل التوجه الفكري والثقافي إلى الصدام والتعصب والحزبية، وقد عانت المجتمعات العربية والإسلامية عامةً، والمجتمع الليبي خاصة من هذه الصراعات.

وتظهر الحاجة الماسة لإعادة النظر في دور المؤسسات التربوية في التوافق مع كل جديد والتركيز على علوم العصر مع المحافظة على البناء القيمي والفكري والثقافي للمجتمع، وبناء الفرد في جميع جوانب شخصيته. كما أن استثمار عقول الشباب واجب وطني يشترك فيه جميع الأفراد والمؤسسات والهيئات في المجتمع. فعندما تتعرض أي أمة لأزمة أو خطر ما فإنها تتجه بشكل مباشر إلى التربية باعتبارها هي المعنية بتكوين المفاهيم والقيم والمثل العليا الصحيحة وتحقيقها في أذهان الناشئة.

والتعليم الجامعي هو من أهم المعاول الأساسية التي تُسهم في تأصيل هوية المجتمع وبلورة ملامحه في حاضره ومستقبله معًا. وهو ضمان التطور السليم للأمة في مسيرتها نحو أهدافها في مختلف ميادين الحياة، وهو السبيل الأهم في إعداد القوى البشرية المتخصصة التي تخطط لنمو المجتمعات وتقدمها. ومن هنا تظهر أهمية الجامعة كونها تتحمل جزءًا كبيرًا من مسؤولية حماية المجتمع من كل فكر ضال أو منحرف من خلال ما ينبغي أن تقوم به من أدوار ومهام في صنع سياج أمني يحصن الشباب من كل فكر دخيل، ويعزز انتماءهم لدينهم وأمتهم ووطنهم، ويجعلهم أكثر قدرة على الحفاظ على هوية الأمة وثقافتها وقيمها ومثلها، وأكثر وعيًا بأخطار الفكر التكفيري، وكل فكر هدام. وحفظ أهم مكتسبات الأمة العربية وهو دينها وعقيدتها، وكونه الركن الأهم في بناء النظم الأخرى، ك لأمن السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والخُلقي، والديني… وغيرها. فأهمية الأمن الفكري تنبع من ارتباطه بالدين الإسلامي للأمة، وهو أساس ذكرها وعلوها، وسبب مجدها وعزها. ومن غايته المنشودة هي سلامة العقيدة، واستقامة السلوك، وإثبات الولاء للأمة، وتصحيح الانتماء لها.

وقد اتخذت الشريعة الإسلامية منهجًا متكاملًا في الأمن الفكري الذي تُعد سلامته سببًا في أمن المجتمع واستقراره، إذ دعا الله إلى صيانة هذا الفكر من الانحراف، ووجهه نحو التفكر في الكون والتأمل في مظاهره، فقد قال -عز وجل-  “الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذو بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ”(آل عمران، 191). كما وفأل تعالى في سورة الجاثية “وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذٰ لِكَ لِآيَات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”. كما حصنه بالعقيدة الصحيحة التي توجه سلوكه نحو الخير، فقد قال تعالى “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ”(البقرة، 256). وطالما أن الدين الإسلامي ينفرد عن غيره بالتشريع للمجتمع تشريعا يُصلح حال الدنيا والآخرة، فلا يمكن تصور وقاية لأمنه الفكري إلا باتباع شريعته التي ملأت قلبه وفكره وسلوكه؛ إذ باتباع الشريعة نعقد صلحًا بين ما يؤمن به الفرد وما يطالب بتأديته. وقد بين سبحانه بأن إقامة الدين والعدل بين الناس شرط في تحقيق الأمن فقال “وَعَدَ اَللَّه اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا اَلصَّالِحَات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذٰلَك فَأُولَٰشَكّ هُمُ الْفَاسِقُونَ”(سورة النور، 55).

ويعد الأمن الفكري ركيزة أساسية في نهضة المجتمعات، وقد حظي بالاهتمام في ظل العولمة، وما صاحبها من تطور في التكنولوجية والاتصالات، مما أدى إلى انفجار معرفي وانفتاح ثقافي، وبالتالي انتشار الثقافات المتعددة، وتداخل المعتقدات المتعارضة؛ مما أدى إلى تهديد الخصوصيات الثقافية، ومحاولة طمس الهوية الفكرية في المجتمعات (إبراهيم، 2019). وقد عرف الزهراني (2017) الأمن الفكري بأنه: إن يعيش الناس في بلدانهم وأوطانهم وبين مجتمعاتهم آمنين مطمئنين على مكونات أصالتهم، وثقافتهم النوعية ومنظومتهم الفكرية. في حين عرفه المالكي (2019) بأنه: صيانة عقول أفراد المجتمع ضد أية انحرافات فكرية أو عقدية مخالفة لما تنص عليه تعاليم الإسلام الحنيف أو أنظمة المجتمع وتقاليده.

وسير الأمن الفكري بأنه حمایة فكر المجتمع وعقائده من أن ینالها عدوان أو ینز ل بها أذى؛ لأن ذلك من شأنه- إن حدث- أن یقضي على ما لدى الناس من شعور بالهدوء والطمأنینة والاستقرار، وهدد حیاة المجتمع. وفي هذا الصدد، فإن هذا المفهوم یختلف من مجتمع إلى آخر، لیس من حیث نوع الفكر أو شكل العقیدة، وإ نما من حیث ضیق المفهوم أو اتساعه. وفي هذا الإطار يشير كنعان (2019) إنه من خلال الأمن الفكري یمكن تحصین الطلبة في مواجهة الغلو والتطرف والعنف خصوصًا إذا تم إدراك أن نسبة غیر قلیلة من الطلبة تُعاني فراغًا فِكْرِيًّا وَثَقَافِيًّا ملحوظًا، وأن بعض الطلبة تم استغلالهم من قبل عناصر استطاعت الوصول إلیهم، فوجدتهم بمثابة أرض خصبة لغرس الأفكار المتطرفة لعدم وجود الحصانة الفكریة اللازمة لدیهم، فعملت على تلقینهم الكثیر من المبادئ والمعتقدات الخاطئة، حتى أصبحوا أداة للقتل وتهدید أمن المجتمع وترویع أفراده.

أما الانحراف الفكري فيشكل خطرا حقيقيا في العالم المعاصر، وبتتبع مفهوم الانحراف الفكري في ضوء أدبيات التربية يلاحظ أنه يدور ما بين الخروج عن الدين، والخروج عن الوسطية. وعرفه الوحش (2019) بأنه: كل خروج فكري عن جادة الوسط والاعتدال المقرر في الشريعة الإسلامية. في حين عرفه أبا نعير (2017) بأنه: ميل الفكر ومُخالفته لدين المجتمع وما يؤمن به من قيم وأخلاق، وما تسود فيه من ثقافة، وما تحكمه من أنظمة وقوانين، وانحرافه عن الوسطية والاعتدال باتجاه التطرف سواء في التشدد أو التفريط. وفي هذا الصدد يمكن أن يعرف الانحراف الفكري بأنه: ذلك النوع من الفكر الذي يخالف القيم الروحية والأخلاقية والحضارية للمجتمع، ويخالف الضمير المجتمعي، ويخالف المنطق والتفكير السليم؛ ويؤدي إلى ضرب وتفكك في وحدة كيان المجتمع.

وللجامعات دورٌ مهمٌّ في الدعوة إلى الله وتحصين الشباب من الانحراف، إذ تقوم بوظيفة أساسية في تأهيل الدعاة إلى الله وقد قامت في العالم الإسلامي جامعات كثيرة نشرت نورها على الأرض وحملت رسالة الإسلام إلى الناس وقد نشطت الدعوة بفضل الله أولاً ثمَّ بجهود هذه الجامعات، لذا فإن للجامعات وظائف كبرى في تزويد الطلبة بالعلم والمعرفة، وتستطيع أن تبنيا مُجْتُمَا سليمًا معافًا لو أدت دورها على الوجه الأكمل واختير لها أكفأ القيادات وأخلصها.

وفي السياق ذاته يؤكد كنعان (2019) أن المرحلة الجامعیة تمثل قمة الوعی والفهم والإدراك بالنسبة للطلبة، إذ یتم تزویدهم بجرعات وقائیة یُراعى فیها التأثیر علی حس الطالب وانتمائه الاجتماعی بما یدفعه إلى الالتزام والتمسک بالنظم والتعلیمات فی ک افه سلوکيأته، کما ینبغی على الجامعات الاهتمام بتدعیم انتماء هؤلاء الشباب لمجتمعهم، وارتباطهم بأهدافه وقضایاه الأساسیة من خلال التحریک الفاعل بطاقات الشباب، ومن أهمها الطاقات المعنویة التی تتمثل فی القیم الدینیة والثقافیة التی تنعکس على سلوک الأفراد والجامعات وفی تعاملهم مع بعضهم البعض.

ويجب توفر عدة متطلبات ضرورية لقيام الجامعة بدورها في تعزيز الأمن الفكري وهي كما حددها… على النحو الآتي:

كما يقع على عاتق الجامعة في سبيلها لتعزيز الأمن الفكري القيام بالكشف المبكر للانحراف الفكري والسلوكي والوعي التام بأدق الظواهر السلوكية ذات المؤشر الانحرافي لدى طلبتها، واتخاذ كافة الوسائل اللازمة لعلاجها قبل أن تصبح سلوكيات ذات طابع انحرافي صعبة التعديل. ومما يساعد على القيام بهذا الدور توفير جو ومناخ ملائم وصحي، ومستوى رضا مرتفع عن البيئة الجامعية، فهي بيئة ذات عوامل جذب وليست عوامل تنفير من الجامعة، بيئة يشعر من خلالها الطالب بالأمان وتعزز ثقته بنفسه، وتوفر له نشاطات يصرف خلالها طاقاته وينمي من خلالها مواهبه، والجامعة صورة عن المجتمع الخارجي لا بد وأن تقوم بتدعيم الانتماء لهؤلاء الشباب، وتنمية الحس بقضاياه، وإعلاء قيمة العمل التطوعي والمشاركة المجتمعية من خلال توفير أنشطة تطوعية تعم علاقة الشباب بمجتمعهم، ودعم قيم البحث العلمي لديهم لدراسة مشكلات المجتمع وتحسين أوضاعه.

وانطلاقاً من دور الجامعة کمؤسسة تعلیمیة وفکرية أوجدها المجتمع لتنمیته وبحث مشکلأته حددت إبراهيم (2019) أهم المبادئ التی یجب على الجامعة إتباعها لمواجهة التحدیات الفكرية والثقافیة وهی کالآتي:

1.  الحرص على عقد المؤتمرات والندوات التی تناقش جوانب الأمن الفکری، وتوضیح الانحرافات الفكرية لدى الطلاب والتحذیر من الوقوع فیها.

2.  صیانة ألفکر الإسلامی الأصیل الذی یسود المجتمع، والدفاع عن کیانه ووجوده وهویته عن طریق التصدی بالدراسة والنقد والتحلیل للتیارات الفكریة الوافدة، وإبراز ما بها من نقص أو خطأ.

3.  إبراز دور العقیدة والالتزام بمبادئ الإسلام ومنها: الوفاء للوطن والمحافظة علی أمنه.

4.  التحذیر من المصادر الإعلامیة المشبوهة، والمنشورات والمطبوعات التی تصدر من جهات غیر رسمية، وعدم المشارکة فی نشرها.

لذلك يتضح أن التعلیم الجامعی له مبادئ وأهداف متعددة شاملة تنطلق من وظائفه الرئیسیة وهی: التدریس، والبحث العلمی، وخدمه المجتمع، إذ إن من أهدافه إکساب الطلبة مهارة البحث العلمی وفق منهج سلیم لمعرفة الحقائق بأسلوب علمی ومنطقی، وتنمیة حریة الرأی والتعبیر حول القضایا موضوع النقاش والحوار، لتنمیة شخصیته نحو التفکیر السلیم المبنی على الحقائق المنطقیة المتفقة مع قیم وعادات وتقالید المجتمع ومبادئ الشریعة الإسلامیة. 

 

مواضيع ذات صلة