“اليوم العالمي للأخوة الإنسانية” في زمن الإبادة الجماعية مدعاة لتساؤلات هي الأكثر حرجا في التاريخ الحديث
حتى لو توقفت “محرقة غزة” اليوم أو غدا، فإن الحديث عن “يوم الأخوة الإنسانية” الذي صادف أمس سيكون مدعاة لتساؤلات هي الأكثر حرجا وربما الأكثر خجلاً في التاريخ الإنساني الحديث. في هذه المناسبة ماذا سنقول لآلاف الثكالى في غزة، وآلاف الأطفال التائهين بعد أن فقدوا الأب والأم والأخ، وماذا سنقول لآلاف آخرين سيعيشون ما تبقى لهم من حياتهم بعاهة دائمة؟!.
في هذه المناسبة يبدو أن على العالم أن يبحث عن المعنى الحقيقي للإنسانية وعن الأسباب التي جعلت من البعض يدافع عن إنسانية إنسان ويبرر ببرود منقطع النظير تنكره لإنسانية الآخر هو الفلسطيني الذي تلاحقه صواريخ الموت حتى في قبره. كل ذنبه أنه يطالب بحقه المسكوت عنه منذ عشرات السنين.
حين نتحدث عن “الأخوة الإنسانية” تزامناً مع “حرب إبادة” لا بد من المقارنة: فقد أطلق الاردن من قبل رسالة عمان وأسبوع الوئام بين الأديان إثباتاً لانحيازنا التام للسلام وإنسانية الإنسان. فمنذ توليه سلطاته الدستورية دأب جلالة الملك عبدالله الثاني على ترسيخ السلام وتمتين الروابط الإنسانية وتحقيق العيش المشترك والحوار بين الأديان، فجلالته ينفرد بأصالته الإنسانيه وإرثه الديني باتباع قيم الدين الإسلامي الحنيف بالإحسان للجار القريب كما للبعيد، وللصديق المقرب كما لعابر السبيل، والعمل مع المجتمع الدولي لتقديم الإغاثة الإنسانية ووضع حد لإراقة الدماء، ومساعدة الأطراف على التوصل إلى حل سياسي سلمي، وإقرار الحق الفلسطيني الذي تسبب التنكر له بحرب دمرت الحجر والبشر وكل ما يتصل بالحياة.
لقد كانت رسالة عمان الدليل الدامغ على سعي جلالة الملك عبدالله الثاني لنشر قيم الدين الوسطي، والتي بدأت كبيان مفصّل أصدره جلالته عشيّة السابع والعشرين من رمضان المبارك عام 1425هـ/ التاسع من تشرين الثاني عام 2004م. كما اعتمد أسبوع الوئام العالمي بين الأديان الذي اقترحه جلالته عام 2010؛ لتعزيز ثقافة السلام ونبذ العنف وتبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة ذلك الاقتراح، قرارها رقم 65/5 في 20 تشرين الأول 2010، معلنة الاحتفاء به في الأسبوع الأول من شهر شباط بوصفه أسبوعا عالميا للوئام بين الأديان.
لكن ذلك لم يكن بمعزل عن جهود جلالة الملك الدؤوبة في كل محفل عالمي من مغبة تبعات التنكر للحق الفلسطيني على السلام ومعاني الإنسانية في المنطقة وربما في العالم أجمع، ومثل ذلك فعلت جلالة الملكة رانيا العبدالله وسمو الأمير الحسين بن عبدالله الثاني ولي العهد. فالإنسانية والحق المشروع والسلام كل لا يتجزأ. هذا هو الفرق: في الاردن قيادة سياسية هاشمية تزاوج بين هذه المعاني السامية برباط أخلاقي ومبدئي لا ينفصل.
مدير المركز الكاثوليكي للدراسات والاعلام الأب الدكتور رفعت بدر، قال، في يوم الأخوة الإنسانية هذا العام، ما زال الأهل في غزة يعانون ما يعانون من أمرّ اللحظات في حياتهم وأقساها على أطفالهم ونسائهم وشيوخهم، فالبيوت أصبحت بلا جدران وفقدت أعمدتها البشرية.
وأشار بدر الى المبادرات الراقية التي أطلقها الأردن في عهد جلالة الملك عبدالله الثاني، والتي أصبحت مبادرات عالمية، تشيد بها كل دول العالم، وتنظر إلى الأردن المقدس بمائه وترابه، بأنه واحة أمن واستقرار، من جهة، وواحة تلاق وحوار من جهة أخرى، داعيا الى اعتبار هذه المبادرات أساسا للتوفيق والتوافق والتلاقي بين مختلف أتباع الأديان.
فجلالة الملك، عميد القادة العرب في الوقت الحاضر، هو من استقبل وبشكل نادر، ثلاثة بابوات زاروا الأردن في عهده السعيد: البابا يوحنا بولس الثاني عام 2000 والبابا بندكتس عام 2009، ووضعا معا حجر الأساس لكنيسة المعمودية في المغطس، والبابا فرنسيس في عام 2014. وفي عهد جلالته تم إطلاق رسالة عمان قبل عقدين من الزمن، وكذلك مبادرة كلمة سواء مع الفاتيكان عام 2007، وأسبوع الوئام بين الأديان 2010، فضلا عن استقبال الأردن للأخوة المسيحيين المهجرين والمضطهدين في الموصل على يدي عصابة داعش قبل عشرة أعوام في 2014، يقول الأب بدر.
وأضاف، من أجل هذا نال جلالة الملك، الوصي على المقدسات في القدس الشريف، جوائز عالمية، تقديرا لجهوده لإعلاء الوفاق الديني والوئام بين مختلف العابدين لله الواحد: فنال جلالته جائزة يوحنا بولس الثاني للسلام عام 2005، وجائزة تمبلتون عام 2018، ومصباح اسيزي للسلام 2019، وجائزة الطريق إلى السلام 2020، وجائزة الأخوة الإنسانية عام 2021″.
لكنَّ في القلب غصةً ونحن نبحث عن وسيلة لوقف شلال الدم الذي يهدر يومياً في غزة المنكوبة، مشيرا الى الجهود الأردنية المتواصلة على مدار الأشهر الماضية بقيادة جلالة الملك من أجل وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات إلى القطاع والدعوة إلى إيجاد حل جذري شامل وعادل للقضية الفلسطينية ينتهي بإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة على التراب الوطني الفلسطيني وعاصمتها القدس الشريف.
عضو مجلس أمناء المعهد الملكي للدراسات الدينية وأستاذ الفقه أصوله في الجامعة الأردنية الدكتور عبدالله إبراهيم زيد الكيلاني أشار الى قوله تعالي “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ”، مشيرا الى أن علماء الشرع استندوا لهذه الآية الكريمة لصياغة مبادئ موجهة في العلاقات الدولية من المنظور الإسلامي مثل” مبنى العلاقات الدولية على التعارف والتعاون والتكامل”.
وبين أن الاسلام نفى أن يكون لاختلاف الألوان والشعوب اعتبار شرعي يسوغ هيمنة أمة على أمة، أو حرمانها من الحقوق لأن كل شعب مفتقر إلى ما عند الشعوب الأخرى كما يقول العز بن عبد السلام “لا تتم مصلحة بني آدم إلا بالاجتماع على نحو يحقق التعاون المشترك والمتبادل مع الأمم الأخرى المسالمة، وفي مجالات الحياة جميعها”.
وأضاف، لقد نبه القرآن إلى ضابط مهم في جانب التعامل الدولي، وهو أهمية العدل حتى مع المخالف، لقوله تعالى: “وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا” في إشارة الى أهمية الحياد والتجرد الإنساني الرفيع، ويتأسس على هذا المبدأ عدد من القواعد في العلاقات الدولية مثل” التقيد بأخلاقيات الحرب”و “مبدأ التعامل بالمِثل مقيد بالفضيلة”، موضحا أن الكريمة تؤكد أن الاختلاف في العرق، أو اللون أو الدين أو المنشأ ليس مسوغا للخلاف والتحارب، بل الأصل هو دعوة إلى التعارف والتعاون والتكامل بين الشعوب.
ولفت إلى أن الإسلام مع اعترافه بالتكتلات الاجتماعية كالشعوب والقبائل، فإنه يؤهل هذه التكتلات لرباط أوسع، وهو الرباط الإنساني في ظل مفهوم الأمة، ويلغي أنواع التمايز التي تعيق تعاون الإنسان مع الإنسان، ويلتقي هذا الفهم مع انتهى إليه المفكرون الإنسانيون في الدعوة الى تعزيز قيم التعاون الإنساني والعيش بكرامة وسلام ونبذ خطاب الكراهية كما ينص ميثاق الأمم المتحدة.
وأشار الكيلاني الى أن أخطر ما عرفته البشرية من حروب هي التي يستخدم فيها الدين لغايات سياسية بعيدة عن جوهر الدين ومقاصده، ومن هنا، فإن القيادات الدينية العالمية مطالبة هذه الأيام حمايةً للأخوة الإنسانية بتقرير أمرين لحماية رسالة الدين هما: ان كل فهم للنص الديني يؤدي إلى ظلم الشعوب هو فهم مشوه للدين نفسه، والثاني الإعلان صراحة بإدانة جرائم الإبادة ضد الإنسانية والحصار غير المشروع في فلسطين والتأكيد على خطورة الاستخدام الخاطئ لكل ما يتنافى مع جوهر الأديان.
وأوضح أن من رحمة الله تعالى بالأردن أن وهبنا قيادة سياسية حكيمة راشدة تحظى بتقدير دولي عززت من قيم المحبة والتراحم بحيث غدا الأردن نموذجا للوئام بين الأديان وحسن الجوار وهي قيادة تستشعر على الدوام مسؤوليتها التاريخية تجاه حماية المظلومين.
مساعد مدير الوعظ رئيس قسم مواجهة التطرف في وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية الدكتور سلطان القرالة، قال: لعل من أجمل ما نقف عنده ونحن نعزز فكرة الوئام والتعايش بين الأديان تلك المبادرة التي جاءت من فكر هاشمي موروث من الآباء والأجداد الهاشميين الأحرار، انه داعية السلام العالمي الملك عبدالله الثاني حينما أطلق تلك المبادرة، مناديا بالسلام أينما حل وارتحل، وأينما صعد على منابر الكلام في العالم بأكمله، مشيرا الى مقولة لجلالة الملك حين خاطب العالم في إحدى المناسبات “نحن جميعا معرضون لخطر أن نغدو ضحايا لمزيد من العنف الناجم من أيدولوجيات الإرهاب والكراهية، ولذلك فواجبنا الأعظم والأكثر إلحاحا هو أن نحول دون تعرض بلادنا وبلادكم والعالم لهذه المخاطر والخيار في ذلك لنا، فإما عالم ملؤه الأمل والتقدم والعدالة للجميع أو عالم منغلق شعوبه منقسمة”.
وأكد القرالة أن العالم اليوم أحوج ما يكون إلى العيش بسلام وبلا حروب، وبلا أسلحة دمار شامل، وأخرى كيماوية وبيولوجية، داعيا تجار الحروب الى أن تستيقظ ضمائرهم المنغلقة وقد باتوا اليوم يهلكون الحرث والنسل في هذه الأرض المتعبة، مشيرا الى أن الاردن يضرب أروع صور التلاحم والتعاضد والأخوة بينه وبين شقيقه التوأم فلسطين، وليس أدلّ على ذلك من موقفه في الآونة الأخيرة التي يتعرض فيها الأهل في غزة من آلام ودمار وهلاك ليخفف عنهم ويدافع عن حقوقهم.
وكان أمين عام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، قال في هذه المناسبة: “نحتفل بروح الاحترام المتبادل والتضامن التي تجمعنا وتجعل منا أسرة بشرية واحدة؛ لكن هذه القيم اليوم على المحك وأي محك، فلنجدد إذن التزامنا برأب ما فرقته الانقسامات، وتعزيز التفاهم الديني والتعاون بين الناس مهما كانت ثقافاتهم ومعتقداتهم”، داعيا إلى شق طريق نحو عالمٍ أكثر سلماً وعدلاً ووئاماً لما فيه مصلحة الجميع.
الخبيرة في مجال حقوق الإنسان الدكتورة نهلا المومني، قالت “يشكل اليوم الدولي للأخوة الإنسانية إضاءة هامة على القيم الإنسانية القائمة على وجود رابط بين البشر جميعا قائما على الأخوة النابعة من طبيعة وفطرة النفس الإنسانية، لذا فإن القوانين الوضعية وتحديدا القوانين الدولية واتفاقيات حقوق الإنسان قامت في جوهرها على تقنين مبادئ هذه الأخوة في إطار نصوص ملزمة للدول، فالاتفاقيات الدولية قامت ابتداء على فكرة الأخلاق والإنسانية والأخوة التي ينبغي تنظيمها وصولا إلى ضمان عدم المساس بها من أي جهة كانت”.
وبمناسبة الاحتفال بهذا اليوم تقول المومني، لا بد من التأكيد على أن فهم مضامين هذا اليوم لم تكن على سوية واحدة بين الدول كافة، فهناك نماذج عكست مضامين هذه الأخوة في تطبيقاتها وممارساتها، وفي مقدمتها الأردن الذي كرس عبر تاريخه قيم الأخوة من خلال استضافة اللاجئين وتقديم العون والمساعدة للدول الشقيقة، وليس أدل من ذلك من الموقف الأردني الراسخ مع أهلنا في قطاع غزة ورفضه للعدوان والجرائم التي المرتكبة بحق الأفراد وإرساله المساعدات والمستشفيات الميدانية رغم الظروف الميدانية الصعبة.
وأشارت إلى أن الموقف من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة كشف عن وجوب وضع قيم الأخوة الإنسانية في أولويات عمل المجتمع الدولي في ظل انتهاك صارخ لهذه القيم ومضامينها.