اليوم الدولي للتعليم “إيلاء الأولوية للتعليم كوسيلة للاستثمار في البشر”
لم تكن فكرة الدولة الحديثة التي تعتمد التَّعليم أساسا لرقيها ونهضة شعبها غائبة عن فلسفة الدولة الأردنية منذ تأسيسها بل كان التعليم باكورة عمل الدولة الحديثة المتسلحة بأجيال يشكل العلم ووجهتها الأولى وهو ما انعكس على أعداد الطلبة الذين شهدت صفوفهم تضخما بما لا يقارن مع أي دولة أخرى على مدى سنوات المئوية الاولى.
فذلك ما تعكسه الأرقام التي تقول إنَّ عدد الطلبة كان عشية تأسيس الإمارة 3 آلاف و316 طالبا وطالبة ليقفز إلى مليونين و141 ألفًا و60 طالبًا وطالبة مع بدايات المئوية الثَّانية، ومن مدارس معدودة إلى أكثر من 7 آلاف.
ففي نهج ملوك بني هاشم الميامين كان التعليم أولوية، حيث توسعت رقعة انتشار المدارس بمراحلها كافة في شرق البلاد وغربها وشمالها وجنوبها ووسطها، وعلى الطَّرف الموازي كان يتم إعداد وتدريب المعلمين بمختلف التخصصات، ودعمهم ماديا ومعنويا، ليصبح الأردن الأقرب الى (صفر أمية) مع قدرات وكفاءات بشرية في المجالات كافة.
وفي ورقته النقاشية السَّابعة أكد جلالة الملك عبدالله الثَّاني، “أنَّ بناء القدرات البشرية وتطوير العملية التعليمية هو جوهر نهضة الأمة، وكان لهذا الحديث الأثر الهام للوصول إلى نظام تعليمي حديث، يشكل مرتكزاً أساسيا في بناء مستقبل مزدهر”.
وبين جلالته أن بناء القدرات البشرية من خلال منظومة تعليمية سليمة وناجعة، يتطلب استثمارا في التعليم، وتوفير بيئة حاضنة، وتأمين الضروريات، واستخدام أحدث الأساليب التعليمية، واعتماد مناهج دراسية تفتح أبواب التفكير العميق والناقد، وتشجع على طرح الأسئلة، وموازنة الآراء، وتعلم أَدب الاختلاف، وثقافة التنوع والحوار .
وفي اليوم العالمي للتعليم تتبعت وكالة الأنباء الأردنية (بترا) مع خبراء ومسؤولين مسيرة الأردن عبر أكثر من مئة عام من بناء وترسيخ وتطوير التعليم، ليتبين أنَّ تعليم سكان المملكة كان اولوية منذ بدء العد التصاعدي للمئوية الاولى، أي منذ تأسيس إمارة شرق الأردن، حيث كان همَّ الملك المؤسِّس عبدالله الأول بن الحسين هو التَّربية والتَّعليم، وإنشاء المدارس بأولوية قصوى، ومن بينها مدرسة الفتح في منطقة المحطة والعسبلية بالقرب منها، والسَّلط والكرك، ليستمر البناء من أجل التَّعليم حتى يومنا هذا.
ففي ظل احتفالات العالم بما فيها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، للمرة الخامسة بهذه المناسبة التي يصادف غدا الثلاثاء، يستذكر هؤلاء الخبراء أنَّ الأردن أرسى قواعد نظم التعليم، وشرع قوانين وأنظمة، تؤطر لسياسات تعليمية، فغدا واحداً من الدول التي تمتلك أجود أنظمة التعليم في بلدان العالم، بهدف استثمار العقول وتطوير ملكات التعلّم والتفكير والإبداع.
وكانت “اليونسكو” أطلقت بمناسبة هذا اليوم الدولي الذي ينضوي تحت شعار “إيلاء الأولوية للتعليم كوسيلة للاستثمار في البشر”، مذكرة مفاهيمية، ركزت حول التقدم بالمواضيع الأساسية الستة التي انبثقت عن مؤتمر قمة تحويل التعليم الذي عقدته الأمم المتحدة في أيلول الماضي.
وسيشمل اليوم الدَّولي، إطلاق أول معيار مرجعي سنوي للهدف الرابع من التنمية المستدامة لرصد تقدم الدولة نحو معاييرها الوطنية، بما في ذلك الالتزامات التي تم التعهد بها في قمة تحويل التعليم.
الباحث والأديب نايف النوايسة يستذكر بدايات التعليم في الأردن، لافتا إلى أنه قبل تأسيس الإمارة سنة 1921 لم يكن في الأردن إلا بضع مدارس، منها مدرسة الكرك التي تأسست سنة 1889وضمت طلابا للصفوف الابتدائية وطلابا للصفوف التجهيزية.
وأضاف، إنَّ مدرسة السَّلط الثانوية اقترنت بتأسيس الدولة الأردنية التي كانت هي المدرسة الوحيدة فيها منذ عام 1919، وكانت تتخذ من بيوت أهالي المدينة مقرًا لها، إلى أن أصبح لها مبنى خاص في العام 1923، وضمت هذه المدرسة في صفوفها طلابا من جميع أنحاء الأردن.
ولفت إلى أنَّ الطلبة كانوا يدرسون في الكتاتيب، وهي حيز صغير إمَّا أن يكون غرفة قديمة في القرية أو بيت صغير من الشعر ويقوم على التدريس فيهما معلم يسمونه الشيخ أو الخطيب ويجلس هو وطلابه الذين يسمونهم (الخطبان)، وفيه يتعلمون القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم وتجويده والحساب والخط، وفي نهاية السنة ينظم الشيخ مع أهل الطلبة احتفالا للتخرج بمناسبة (الختمة)، أي ختم قراءة( الربعة) أي ربع يس، ويدفع الأهالي للشيخ أجره إما من المال أو من الحبوب والأنعام أو نواتجها.
يقول النوايسة، لقد مررت بمرحلة (كتاب الشيخ) قبل دخولي المدرسة عام 1954، إذ كان عدد المعلمين والمعلمات قليلا، وكذلك عدد المدارس، ومعظم المدارس بعيدة عن سكن الطلاب الذين يأتونها مشيا على الأقدام في ظل ظروف معيشية صعبة، تكون أصعب على الطالبات.
وكان المعلم، حسب النوايسة، يمارس دور الموجه الاجتماعي ليس في المدرسة فحسب ولكن في المجتمع الذي يكون فيه؛ فهو الشيخ في المسجد والمدرس للناس في مجالسهم والضابط الاجتماعي في شوارعهم والمنظر للأحزاب التي كانت معروفة آنذاك.
لقد “كنا” يضيف النوايسة، “نحفظ الكتب عن ظهر قلب وليس لنا شاغل غيرها، وبرز منا مبدعون في الأدب حيث كتبوا القصة والشعر وما زالت آثارهم موجودة حتى الآن، كما برز منهم العلماء والمفكرون والساسة وقادة الجيش.. وعلى مستوى المرأة كان الاهتمام بسيطا في البدايات ثم ازداد وتعمق حتى أصبحت المرأة الأردنية كاتبة وصحفية ووزيرة ونائبة ورئيسة جامعة وقيادية واحتلت مع رفيقها الرجل المواقع المتقدمة في بناء الأردن”.
ويقول المؤرخ الدكتور علي محافظة في كتابه تاريخ الأردن المعاصر عهد الإمارة 1921- 1946، إن التّعليم الحديث اقتصر في شرقي الأردن، إبان الحكم العثماني، على بعض المدارس الأولية واربع مدارس ابتدائية في اربد والسلط والكرك ومعان، وخلت البلاد من التعليم الإعدادي والثانوي وانتشرت المدارس الأهلية التي كانت على نوعين الكتاتيب ومدارس الطوائف.
ويضيف، في العام الدراسي 1922- 1923 كان عدد الطلبة 2998 مقابل 318 طالبة بإجمالي 3316 طالبًا وطالبة، وفي العام الدراسي 1932- 1933 بلغ نحو 50 مدرسة للبنين و10 مدارس للبنات بما مجموعه 60 مدرسة، وعدد المعلمين والمعلمات نحو 134 معلما ومعلمة، فيما بلغ العدد في العام الدراسي 1946-1947 نحو 77 طالبا وطالبة، و 214 معلما ومعلمة.
وكان للمدارس الخاصة التي أنشأها الأهالي في القرى والمدن الدور الهام في النهضة التعليمية في عهد الإمارة، وتضم هذه المدارس الكتاتيب الإسلامية في القرى والمدن إضافة إلى الطوائف المسيحية في البلاد، وصدر أول نظام للمدارس الخاصة في شرق الأردن في 20 كانون الثاني 1945، واشترط الحصول على ترخيص من وزارة المعارف عند تأسيس أية مدرسة خاصة، وإشراف الوزارة على المناهج والمصادقة على شهادات المعلمين والمعلمات.
يقول المستشار التربوي فيصل التايه، ان النظام التربوي في مختلف عهود التأسيس والبناء والتعزيز في الأردن حظي بالرعاية الملكية السامية في مراحل تطوره بوصفه محورا مهما في مسيرة التنمية الشاملة المنشودة، ومضى بخطوات قوية بالاستثمار في العقول، إلى أن وصل الآن إلى أكثر من 7 آلاف مدرسة .
ويستذكر التايه بدايات تأسيس نظام التعليم الحالي بعد تأسيس المملكة عام 1946، حيث بُني في أساسه وبداياته على نظم موروثة من فترات سابقة.
وأوضح، قبل عام1921، كان نظام التعليم تقليدياً متوارثاً عن النظم العثمانية التي كانت سائدة في تلك الفترة، وكان إطار النظام التعليمي مقتصراً على عدد قليل مما كان يسمى آنذاك بالكتاتيب، إضافة إلى بعض المدارس الابتدائية، ومع تأسيس إمارة شرق الأردن تأسس معها نظام تعليم شامل، في حين وضع حجر الأساس لأول مدرسة ثانوية في مدينة السلط في عام 1923.
ويشير إلى أن التعليم ظل يسير منذ تأسيس الدولة وفق نظام المعارف العمومية العثماني، إلى أن استبدل بنظام المعارف لسنة 1939، وفي الرابع والعشرين من أيلول عام 1940 صدر مرسوم بإنشاء أول وزارة للتعليم في الأردن، حيث كفلت الدولة التعليم لأبنائها باعتباره حقًا دون تمييز وضمن إمكاناتها وضمن بنود الدستور الأردني الذي نص على أن التعليم الأساسي إلزامي للأردنيين وهو مجاني في مدارس الحكومة، وهو النص ذاته الوارد في قانون التربية والتعليم.
ثم صدر قانون التربية والتعليم رقم 16 لسنة 1964 فجاء شاملًا وتبنت الدولة من خلاله مبدأ التخطيط التربوي لتحقيق أهداف التطور التعليمي، الذي حدد أول فلسفة واضحة المعالم للتربية والتعليم في الأردن.
ويضيف التايه، عندما اتسعت دائرة المسؤولية بإعلان الوحدة بين الضفتين عام 1950 وُضِعت جميع المدارس التي كانت في الضفة الغربية تحت الإشراف المباشر في وزارة التربية والتعليم في عمان وواكب تلك الخطوات ارتفاع في عدد المدارس في الضفتين، واستلزم هذا الاتساع في التعليم صدور القوانين المنظمة له، ففي حزيران عام 1952، صدر أول قانون مدرسي ينظم واجبات مدير المدرسة ونظام الامتحانات العامة وشروط قبول وتسجيل الطلاب وترفيعهم.
وأكدت رؤية الأردن 2025 التي وجه بإعدادها جلاله الملك أهمية رفع سوية التعليم، كما أطلق الملك مشروع “التطوير التربوي نحو الاقتصاد المعرفي”، الذي تناول سياسات واستراتيجيات وبرامج تعليمية، وتحسين البيئة المدرسية، واستخدام التكنولوجيا.
وظهرت مبادرات تربوية مثل مبادرة التعليم الأردنية وهي مؤسسة غير ربحية أنشئت عام 2003 من أجل الربط بين قوة التكنولوجيا واستراتيجيات التدريس الحديثة، وفي عام 2013 تأسست مؤسسة الملكة رانيا للتعليم والتنمية لتطوير حلول مبتكرة، واحتضان مبادرات جديدة ذات أثر على مخرجات التعليم، والتركيز على منظور شمولي لمواطن القوة والضعف في النظام التعليمي بالاعتماد على الابتكار، وتسخير التكنولوجيا الحديثة.
وأطلقت المؤسسة منصة إدراك، وهي أول منصة عربية غير ربحية تُقدِّم مساقات إلكترونية جماعية مفتوحة المصادر باستخدام تقنية (إد. إكس) المبتكرة من قبل جامعة هارفرد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وتمكنت من استقطاب أكثر من مليون متعلم خلال أقل من 3 سنوات.
وإضافة إلى إنشاء جائزة الملكة رانيا العبدالله للتميز التربوي، أطلقت جلالة الملكة رانيا العبدالله عام 2008 مبادرة “مدرستي” بهدف تحسين البيئة المدرسية في 500 مدرسة حكومية ذات حاجة ماسة للتأهيل.
أستاذة الإدارة التربوية في جامعة الحسين بن طلال الدكتورة ديمه وصوص، تلفت إلى أنَّ الاستثمار بالعقل البشري يعد أفضل أنواع الاستثمار، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال التعليم، فالتعليم ركيزة في تنمية العائد الفردي والمجتمعي.
وتعتبر وصوص، أن الإنفاق على الموارد المستخدمة في التعليم “استثماراً” يؤدي إلى تنامي المردود الاقتصادي، مشيرة الى أن العالم الفرد مارشال- وهو أحد أهم مؤسسي علم الاقتصاد الحديث- ذكر في كتابه (مبادئ الاقتصاد) بأن فئة متعلمة من الناس لا يمكن أن تعيش فقيرة؛ لأنه بالعلم والمعرفة والوعي والطموح والقدرة على الإبداع يستطيع أن يسخر الإنسان قوى الطبيعة ومصادرها وما في باطن الأرض من ثروات وما فوقها لصالحه ليعمل على الارتقاء بنفسه وبمستوى معيشته.
وقالت، في ضوء التوجيهات الملكية السامية قامت وزارة التربية والتعليم ببرامج تطويرية نابعة من مبادئ السياسة التعليمية التي تؤكد بأن التعليم وسيلة لإحداث التماسك الفكري والاجتماعي، فعملت وزارة التربية والتعليم على تحديث المناهج الدراسية لمختلف المراحل التعليمية بما يتناسب مع المتطلبات الحديثة، وإدخال مفاهيم مرتبطة بسوق العمل وربطها بالمهارات التطبيقية للحياة العملية بمختلف المواد الدراسية وتخصيص مادة الثقافة المالية والحاسوب والتربية المهنية وربطها بالواقع العملي ومتطلبات سوق العمل، بحسب وصوص.
وتلفت إلى أن وزارة التربية والتعليم سعت من خلال برامجها الإشرافية والتدريبية للمعلمين أثناء الخدمة الى تدريب المعلمين على الطرائق الحديثة للتعليم، وعدلت نظام رتب المعلمين حيث يشترط للترقية إلى رتبة معلم قائد قيام المعلم بمبادرات إبداعية وإنجازات مدرسية ومشاريع تربوية منها التوجه إلى البحث العلمي الذي يحفز المعلمين لدراسة القضايا التربوية في الميدان التربوي لتشخيصها والعمل على إيجاد الحلول التربوية لها.
المصدر: وكالة الأنباء الأردنية – بترا.