ثقافة المربي!
ثقافة المربي!
أ. د. محمد أمين حامد القضاة، أستاذ في قسم القيادة التربوية والأصول، كلية العلوم التربوية، الجامعة الأردنية
عرض في الجزء الأول من المقال مفهوم التربية، ومفهوم الثقافة، فيما يعرض في الجزء الثاني عناصر ثقافة المربي. لا بد بداية وقبل الحديث عن ثقافة المربي وعناصرها بيان التالي: من المربي؟ وما مهمته؟ وهل مهمته ربانية؟ ومن أول مربي؟. للإجابة على هذه الأسئلة لا بد من الرجوع إلى التعريف اللغوي للتربية وهل من علاقة بينها وبين الأصل اللغوي لاسم الله تعالى الرب؟ لأن كشف اللثام عن ذلك يجلي لنا المسألة.
وكما ذكر سابقا، في الجزء الأول من المقال، للتربية جذور لغوية تتمثل بـ: ربا: بمعنى نما وزاد. ربَ: بمعنى أصلح. ربي: بمعنى نشأ وترعرع. فالتربية في لغة تعني: النماء، الزيادة، التزكية، والعلم، والإصلاح، والتأسيس والإنشاء. فيما يطلق الرب في اللغة على معان منها: المالك، قال الله تعالى: “يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا” (يوسف،41)، والمصلح، رب الشيء؛ أي: أصلحه[1]، قال ابن الأثير: “الرب يطلق في اللغة على المالك، والمدير والمربي والقيم، والمنعم”[2]، وقال ابن كثير ” والرب هو المالك المتصرف ويطلق في اللغة على السيد، وعلى المتصرف للإصلاح وكل ذلك صحيح بحق الله تعالى”[3]. فوصْفُ الرَّبِّ مِن الناحية اللغوية يكُون لمن أنشَأ الشَّيْءَ حالًا فحالًا إلى حَدِّ التمامِ، أو قام على إصلاحِ شؤونِه وتولَّي أمرَهِ بانتظامٍ[4].
ومن هنا يلاحظ التقاء في المعنى اللغوي بين التربية وبين اسم الله سبحانه الرب، من جانب الإصلاح والتنشئة، فالله سبحانه وتعالى هو المربي والمصلح لعباده بما من عليهم وبحث منهم رسلا يخرجونهم من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهداية. وعليه فآدم عليه السلام أول مرب من البشر؛ بصفته نبيا وأبا وزوجا، وأمنا حواء أول مربية بصفتها أما وزوجا. وفي هذا رد على ما قدم به عبدالله عبد الدايم كتابه التربية عبر التاريخ بقوله[5] ” لن نبدأ تأريخنا للتربية متسائلين: هل كان آدم مربى؟ ولن نحذو حذو ذلك الفيلسوف الألماني الذي استهل تأريخه للفلسفة متسائلا: هل كان آدم فيلسوفا؟ صحيح أن التربية وجدت منذ وجد آباء وأمهات رعوا أبناءهم. غير أننا لسنا في معرض البحث عن تلك القرزمات الأولية للتربية. وقد يكون مثل هذا البحث أقرب إلى الفضول العلمي والتنقيب الكمالي منه إلى البحث الجدي المفيد في مجال التربية”.
وبناء على ما تقدم، فكل مرب مصلح متقن لمهمته، يكون قد اشترك مع أنبياء الله سبحانه بصفة الإصلاح، وهل كان الأنبياء إلا مصلحين؟ وهذه أهم قضية لا بد أن يتثقف بها المربي، لينقلها لمن يقع فعل تربيته عليهم؛ وهو بذلك ينقل لهم شرف عمله ومهمته، وبالتالي يقدرون عمله، ويعظمونه، وهذا مدعاة لأن يكون تأثير قوله وفعله عليهم أجدى وأثبت، فعادة – وكما هو معلوم- كلما كان المتربي ينظر إلى مربيه بنظرة تقدير واعتزاز وفخر، كلما كان تأثره به أكبر. ومن هنا يظهر أن لثقافة المربي أثر على المربي نفسه، والمتربي بآن واحد.
ولتحقق ذلك لا بد للمربي أن يكون مثقفا وصاحب إحاطة معرفية بعدة مجالات فلا بد لمن يتصدّى لتربية الناس من صفات يتأهّل بها ليشغل تلكم الوظيفة، ويقوم بها خير قيام. وتتمثل ثقافة المربي المطلوبة من ثقافة أساسيّة[6]: كعلوم الدين، واللغة، والتّاريخ، بما يرفع عنه الجهالة المشينة، فأيّ نقص يحمله المرء حين لا يعرف المعلوم من الدّين بالضّرورة، كأركان الإيمان والإسلام وأحكامهما الرّئيسة؟ وما أحوج التّربية إلى أناس يتقنون لغتهم، وينزلونها في موضع مقدّس، فاللغة أول أهداف المحتل البغيض؛ ليكسر العمود الفقري لثقافة المجتمع، وسيكون التّاريخ خير رافد للمربي في مسيرته لإصلاح نفسه وغيره. وإذا أصبحت القاعدة الثّقافية الأفقيّة للمربي متينة بهذه الأسس، ناسبه أن يزيد من ثقافته التّخصصيّة في المجال التّربوي، لأنّها ميدانه الخصب، وأن يولي العلوم الإنسانيّة أهمية في مساره الثّقافي، فيأخذ بطرف من علوم الإدارة والاجتماع والنّفس، ومن نافلة القول ألّا يحرم نفسه من الثّقافة العامة، فهي من طرائف الحكمة التي تقاوم الملل، وتلّطف الحديث، وتنّشط لمزيد من الجدّية بعدها.
ويمكن إجمال عناصر الثقافة الأساسية التي بدونها لا يستطيع المربي أداء مهمته بما يلي:
ثقافة إسلامية: فلا بد من إحاطة بأساسيات العلم الشرعي، وهو ما يعبر عنه بما علم من الدين بالضرورة. فالقرآن الكريم أساس هذه الثقافة ومنبعها؛ فإليه ترجع تعالم الإسلام من عقائد ومفاهيم وقيم وعبادات وشعائر وأخلاق وآداب وقوانين وشرائع، فالقران الكريم حاو لحقائق الكون والنفس والحياة، وحقائق الاجتماع الإنسان، فلا بد للمربي أن يحفظ من القرآن الكريم قدر استطاعته؛ إضافة إلى دوام تلاوته بتدبر، وأن يتقن تلاوته. وكذلك لا بد من الإحاطة بعلوم القرآن الكريم[7].
ومثل ذلك للسنة الشريفة المصدر الثاني للتشريع، فلا بد من معرفة بصحيحها وضعيفها، والمقصود هنا معرفة استخراج الصحيح من الضعيف، ومما سهل الأمر في العصر الحديث وجود برامج ومواقع تخص بذلك تمكن معرفة درجة الحديث بسهولة ويسر. وكذلك لا بد من اطلاع على الجزء العملي من السنة؛ وأعني هنا السيرة النبوية؛ هديه عليه السلام في كافة شؤون الدين والدنيا. وزد على ذلك ثقافة بعلم الإيمان والفقه لمعرفة الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات وأحكام الأسرة، وأن يكون ذا قدرة على مراجعة هذه الأحكام والوصول إلى مضانها في مصادرها. وكل هذا يتطلب أن يكون المربي متمكنا من اللغة العربية وأدواتها. فلا بد أن يكون المربي سليم اللسان، صحيح الأداء، جيد التعبير.
ثقافة بالرسول المعلم صلى الله عليه وسلم وأساليبه في التعليم، لعظيم صلته بالعلم والعلماء والتعليم والمتعلمين؛ فقد أثبت التاريخ[8] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم کان معلما وأي معلم؟ فنظرة يسيرة إلى ما كانت عليه البشرية قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى ما آلت إليه البشرية بعد رسالته، تعطينا أوضح شاهد ودليل على ثبوت ذلك. وإذا لاحظنا النماذج المعلمة الهادية من النوع الإنساني، التي شاهدتها البشرية بعد الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم، رأيناها تدل أقوى الدلالة على عظم هذا المعلم المربي الكبير، الذي تتقاصر أمامه أسماء كل الكبار الذين عرفوا وذكروا في عالم التعليم والتربية وتاريخهما. فأي معلم من المربين تخرج على يديه عدد أوفر وأهدى من هذا الرسول الكريم، الذي تخرج به هؤلاء الأصحاب والأتباع؟ فكيف كانوا قبله؟ وكيف صاروا بعده؟! إن كل واحد من هؤلاء الأصحاب دليل ناطق على عظم هذا المعلم المربي الفريد الأوحد. وهذا يذكرنا بكلمة طيبة جدا لبعض الجهابذة الأصوليين، يقول فيها: لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة إلى أصحابه، لكفوه لإثبات نبوته[9].
ثقافة تاريخية: سواء تعلقت بتاريخ الإسلام والمسلمين، أو بتاريخ الأمم الأخرى. على أن تكون احاطة بهذا المجال مبنية على حقائق علمية بعيدة عن العاطفة والتقديس.
ثقافة المربي العامة وإدراكه لما يدور في عصره. فلا بد من إحاطة بواقع العالم الإسلامي اليوم ومشاكله، وكذلك إحاطة بواقع الدول الأخرى وطبيعتها، ولا بد من متابعته للأحداث العالمية ليكون دائم الاطلاع وليوظفها حيثما دعت الحاجة.
ثقافة بعلم التربية، سواء الخاص بطبيعة وسمات المراحل العمرية؛ مرحلة الطفولة أو الفتوة، أو الشباب، أو مرحلة الرشد، أو الخاص بأصولها الاجتماعية والتاريخية والفكرية، أو الخاص بأساليب التدريس وطرائقه. فعلم التربية يمكن المربي من حسن توجيه المتربين والتأثير فيهم، وإثارة حوافز الخير في أنفسهم، فهي تمكن المربي من الارتقاء بمفاهيمه وأخلاقه وسلوكه.
ثقافة بطرق الاتصال والتواصل: يعد التعامل مع الناس فن من الفنون ذات الأهمية الخاصة، نظرا لاختلاف طباعهم وشخصياتهم، فمن المتعذر حيازة رضا واحترام وتقدير الآخرين بسهولة، لكنه ممكن عن طريق حسن التواصل معه، لذا تعدّ عملية اتصال المربي مع الآخرين من أساسيات الفعل التربوي، فمهارات تواصل المربي هي قدراته التي يستخدمها عند تقديم أو تلقي مختلف أنواع المعلومات مثل إيصال الأفكار والمشاعر للمتربي. وبها يمكن للمربي أن يصل للمتربي وأن يحوز ثقته.
لأجل ذلك تعد الثّقافة للمربي، وسيلة ينمي بها فكره، ويكمل نقصه، وهي أداة يستخدمها لأداء وظيفته في تزكية النّاس، وتربية الأجيال، وتقويم المجتمع؛ إن مربياً مثقفا يستطيع مـا لا تسـتطيع التجهيزات والوسائل والمرافق أن تماثله لتحقيق التربية المثلى. فالتربية الأمثل تأتي عادة من المربي الأمثل.
خاتمة:
يظهر لنا مما سبق أهمية أن يعتني المربي بتنمية ثقافته، والعمل على تجويدها وتنويعها، وتاليا بعض المراجع التي أرشحها لذلك:
الرسول المعلم وأساليبه في التعليم، عبد الفتاح أبو غدة.
مشكلة الثقافة، مالك بن نبي.
أصول التربية الحضارية في الإسلام، هاشم الأهدل
الشخصية ومنهج الإسلام في بنائها ورعايتها، ناصر بن عبد الله التركي.
رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر، محمد قطب.
نحو نظام معرفي إسلامي.
فلسفة التربية الإسلامية دراسة مقارنة بالفلسفات التربوية المعاصرة، ماجد عرسان الكيلاني.
السلوك الاجتماعي في الإسلام.
تذكرة السامع في أدب العالم والمتعلم.
شروط النهضة، مالك بن نبي.
فن الاتصال برت دكر، ترجمة عبد الرحمن الشمراني.
المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية عبد الكريم زيدان
مدخل لدراسة الشريعة، يوسف القرضاوي.
الأساليب التربوية عند شيخ الإسلام ابن تيمية، خطاب السعدي.
مسؤولية الأسرة المسلمة في تحقيق التربية الوقائية، عبد الرحمن عبد الكريم.
كتب تربية الأولاد في الإسلام.
كتب تاريخ الإسلام.
كتب السيرة النبوية.
وأخيرا فما وجدتموه من خير فهو من الله سبحانه وتعلة ومن جميل ستره، وما كان على غير ذلك، فهو من تقصير العبد الفقير لله تعالى وضعفه. والحمد لله على جميل ستره وعظيم عطائه.
- لا يجوز الاقتباس واعادة النشر للمحتوى المنشور إلا بموافقة رسمية من موقع شؤون تربوية.
المراجع:
[1]. انظر: تهذيب اللغة، دار إحياء التراث العربي، 2001.
[2]. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، الحلبي، 1963.
[3]. انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير، 2010، ص 198.
[4]. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، الحلبي، 1963..
[5]. انظر التربية عبر التاريخ، عبدالله عبد الدايم، 1984، ص: 11.
[6]. انظر: ثقافة المربي في عصر مختلف أحمد العساف 1439 http://almoslim.net/news/287435
[7]. انظر: ثقافة الداعية للقرضاوي، 1996.
[8]. انظر: الرسول المعلم وأساليبه في التعليم، عبد الفتاح أبو غدة، 1997.
[9]. نقلا عن المرجع السابق ص: 14.