تفسير الأحلام أداة تربوية إسلامية لاستكناه الغائر في التحليل النفسي
تفسير الأحلام أداة تربوية إسلامية لاستكناه الغائر في التحليل النفسي
الأستاذ الدكتور محمد حبش، الإمارات العربية المتحدة
تقابل كلمة تفسير الأحلام بقدر غير قليل من التسخيف واللامبالاة، خاصة حين يتخذ التفسير سلوكًا عجائبياً، يقفز فوق العقل والمنطق، أو يعتمد على القدرات السحرية للمفسرين، كما باتت تقدمها اليوم قنوات متخصصة قائمة على التسلية وإثارة. ولكن من الواجب القول إن تفسير الأحلام يعتبر علماً موضوعياً له احترامه في علم النفس التربوي، وقد بات واحداً من أدق وسائل الطب النفسي، ومعرفة الغائر من الإنسان المكتوم، وهي الجانب الأكثر جوهرية ودقة في معرفة العقل الباطن.
وتفسير الأحلام كمنهج تربوي أقره القرآن والسنة الشريفة هو اليوم فرع من علم النفس الحديث، وفي تعبير مباشر، يقول فرويد: إننا نعرف من الإنسان ما يريدنا أن نعرفه،[1] إننا نعرف من الناس ما نعرفه عن الممثلين الذين يظهرون على خشبة المسرح، ويقدمون للمشاهد الصورة التي يرغبون فيها، وهي صورة احتيالية قد تكون غاية في التناقض عن الصورة الحقيقية للمثل في حياته العامة والشخصية، ولا شك أن التحليل النفسي بهذه المعطيات الساذجة لن يقدم معرفة حقيقية، ويؤكد فرويد على وسائل ثلاثة يمكن من خلالها معرفة الجانب الخفي من الإنسان وهي الأحلام وزلات اللسان والتداعي الحر. في قناعتي أن القرآن الكريم منحنا هذا الدرس التربوي لتفهم الأحلام بدقة، واعتبارها وثيقة دقيقة يدلي بها الحالم لوصف الجوانب التي لا يريد الاعتراف بها مما هو مستكن في عقله الباطن، ولهذا المعنى فقد كان رسول الله يسأل أصحابه عن الرؤيا كل صباح، وكان يتأول بعضها ويترك بعضها.[2] وفي الأحلام ينطلق المعبرون والمفسرون من سؤال افتراضي بدهي، وهو ماذا رأيت؟ ولكن فرويد ينطلق من سؤال آخر، وهو لماذا رأيت؟ وسنحاول أن نرصد هذه الحقيقة بالذات في قراءة تأملية في سورة يوسف، وفي الواقع فإنني غير معني برسم ظلال القصة كظاهرة إعجاز، ولكنني أقدمها كأسلوب تحليل نفسي ومعرفة عميقة بدوافع الحالم ومعاناته. ويطرح القرآن الكريم حالة النبي يوسف، كمحلل نفسي من طراز رفيع، يتعامل مع المسائل بروح علمية مختلفة تمامًا، وفي نظري، هو أوضح صور الانتقال من السؤال الأبله ماذا رأى؟ إلى السؤال البصير لماذا رأى؟ والقصة معروفة تماماً حين قال الملك لمستشاريه {إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون} (يوسف 43) وحين طرح الملك الأمر على مستشاريه كان جواب المستشارين سلبيًا واحتياطيًا {قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين}(يوسف 44) وحين عرض الأمر على يوسف نظر إلى الأمر من دائرة عميقة في التحليل النفسي؛ فهو أعرف الناس بالبلاط الملكي في مصر، وأعرف الناس بمعاناة الملك الذي يتقدم دومًا على المنصات الملكية أمام الجمهور، بوصفه إلهًا قادرًا على فعل كل شيء، ويعلن على الملأ أنا ربكم الأعلى! وهو يبدئ ويعيد ويحيي ويميت، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس إلا عنده به علم مبين. ولكن هذه الصورة الفرعونية الطافحة بالغرور تقدم تحليلًا مضلّلًا للذين يدرسون طبيعة الإنسان، ويوسف الذي يعرف البلاط جيدًا، ويعرف ما كان فيه من فساد وفي خزائنه من نهب وسرقات، لم يكن يعنيه في شيء ما كان يقوله الفرعون على حشبة المسرح، فالممثلون مضللون ومن النادر أن يقولوا الحقيقة، ولكن الحقيقة تدرس في الكواليس، وكان يوسف تماماً في المكان الصحيح للوعي بأزمة الملك، فهو لم يابه لإعلانه المستمر بالقوة والمجد، وأدرك بعمق الطبيعة الاحتيالية للممارسات الماكرة للإنسان والتي تؤدي إلى تضليل التحليل النفسي، وهي الحقيقة التي أكدها فرويد بقوله: نحن لا نعرف من الإنسان حقيقة إلا ما يردده الممثلون على خشبة المسرح، أو ما تشاهده العين من جبل الثلج، إنه يبدو قماطًا أبيض فحسب، ولكن علينا أن ننتظر حتى يذوب الثلج ويظهر المرج؛ ونفهم كم كان وراء الصورة البيضاء الخداعة من ألوان وتفاصيل والتواءات وانحناءات وبيوت وشجر كانت مغمورة بالثلج.[3] كان يوسف يدرك تمامًا أن هذا الملك الهائل يعيش في جوفه رعبًا آخر، فهو يدرك أن خزائنه خاوية وقد أفقرتها السرقات والفساد وتناهب النسوة في المدينة، وقصص الغرام والمكر الذي تمارسه سيدات القصر، وكان يدرك أن الملك عاجز عن دفع مرتبات شهرين قادمين، وأنه على وشك إعلان الإفلاس، وأن صورته الملكية المكللة بالذهب صورة غرور طافح، وأنه على وشك الانهيار اقتصاديًا واجتماعيًا؛ ما لم يقم بتغييرات ثورية في النظام الاقتصادي للمملكة، ويوقف بذخ القصور وفساد البلاط.
هكذا فهم يوسف النبي الصديق رؤيا الملك، وحين كان يستمع إلى الراوي، لم يكن معنيًا بسؤال ماذا رأى الملك، وإنما كان سؤاله العميق: لماذا رأى الملك هذا؟ أدرك يوسف أنها رؤيا ذعر ورعب، وأن الملك مقدم على كارثة حقيقية، وأن عليه أن يضع خطة طريق اقتصادية لخلاص مصر، ولم يكن جوابه بالطبع تفسيرًا للحلم الأبله، بل كان مواجهة مباشرة مع الكارثة الاقتصادية الماحقة القادمة على مصر، التي حاول الملك أن يكتمها على منصاته الخطابية، ولكنها تسللت من شعوره اللاواعي، عبر الحلم المرعب الذي عقد لتفسيره وتأويله مجالس المستشارين في الداخل والخارج. كانت خطة يوسف تتضمن تحولات ثورية في نظام الإنفاق، ووقف البذخ الملكي، ومراقبة البلاط بروح محاسبية صارمة، وعلى الفور رسم خطته: {تزرعون سبع سنين دأبًا، فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلًا مما تحصنون} (يوسف 47) ومعنى ذلك وقف كل الامتيازات التي كان يختص بها البلاط ووقف أنهار المال المتدفق في جيوب المرتشين والسماسرة في البذخ الملكي، وبالتالي الاستعداد للسنوات العجاف سبع سنين أخرى، {ثم يأتي من بعد ذلك عامٌ فيه يغاث الناس وفيه يعصرون} (يوسف 49) وفي جانب آخر، كان يوسف يدرك أن الإصلاح الاقتصادي لا تكفيه خطة حكيمة، بل لا بد له من إدارة حازمة صارمة تواجه الدولة العميقة التي كانت تقود عمليات الفساد وتتربح منها، وقد قدم ذلك بوضوح في الخطوة التالية، عندما قال: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} (يوسف55) كان تأويل الرؤيا مدهشًا، بالنسبة إلى الملك الذي فوجئ برجل يعلم كل خفايا الكارثة المكتومة، ويعلم تمامًا طبيعة الصراع الداخلي في نفس الملك، بين الوعي المنشور واللاوعي المحظور، ويدرك تمامًا وبدقة لماذا رأى الملك هذا، وكان هذا الدهش من القوة بحيث دفع الملك إلى التماس هذه المعرفة العميقة من يوسف، وتلبية شروطه السيادية كاملة، ومن ثم وضع خزائن الأرض بين يديه. وفي إشارة مدهشة وعميقة، لفهم تلك التحولات العميقة التي وقعت في البلاط الملكي في مصر، عبر رؤيا منام، جاءت الآيات الكريمة: {وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}(يوسف 56).
- لا يجوز الاقتباس واعادة النشر للمحتوى المنشور إلا بموافقة رسمية من موقع شؤون تربوية.