كذبة نيسان: وهم الحقيقة المؤقتة

الأستاذة غادة قاقيش

مساعدة العميد، كلية العلوم التربوية، الجامعة الأردنية

يشهد العالم في الأول من نيسان من كل عام ممارسة لتقليد يُعرف بـ”كذبة نيسان”، حيث يتبادل الناس الخدع والمزاح، ويقبلون – ولو ليوم واحد – بفكرة أن الحقيقة يمكن أن تكون موضع تساؤل أو حتى تزييف. ولكن إذا كان من السهل خداع الآخرين أو تصديق الأكاذيب الصغيرة في هذا اليوم، فهل يمكننا خداع أنفسنا؟ أم أن هناك حقيقة واحدة لا يمكن التلاعب بها أو إنكارها؟ الحقيقة التي لا تحتمل الشك هي معرفة الإنسان لذاته، تلك المعرفة التي تتجاوز الأوهام وتضعه في مواجهة حقيقية مع نفسه.

تُعَد كذبة نيسان تقليدًا عالميًا يتيح للناس لحظات من الضحك والتسلية، لكنه في جوهره يعكس طبيعة الإنسان في اللعب بالحقيقة، إما لاختبار ذكاء الآخرين أو لكسر الرتابة اليومية. ورغم بساطة الفكرة، إلا أنها تشير إلى مسألة أعمق: كيف نميز بين الحقيقة والوهم في حياتنا اليومية؟ وكيف يمكن أن نكون على يقين من أي شيء؟

في زمن تنتشر فيه المعلومات بسرعة هائلة عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، باتت الحقيقة أكثر هشاشة مما كانت عليه من قبل. الأكاذيب تنتشر في الأخبار، الصور تُعدَّل، والحقائق تُشوَّه. لكن رغم كل هذه الفوضى، تظل هناك حقيقة واحدة لا يمكن التشكيك فيها، وهي معرفة الإنسان لذاته.

يقول سقراط: “اعرف نفسك”، وهذه الحكمة القديمة تظل صالحة حتى يومنا هذا. فبينما يمكن للإنسان أن يشكك في كل شيء حوله، إلا أن إدراكه لذاته يظل النقطة الثابتة في عالم متغير.

وفي علم النفس، يُعرف مفهوم الذات بأنه الإدراك الذي يكونه الفرد عن نفسه، وهو مزيج من الأفكار، والمشاعر، والتصورات التي يمتلكها عن كيانه. هذا المفهوم لا يتشكل بين ليلة وضحاها، بل هو نتاج تجارب الحياة، والتفاعل مع الآخرين، والتأمل الذاتي. يرى عالم النفس كارل روجرز أن الإنسان لا يصل إلى تحقيق ذاته إلا عندما يكون صادقًا مع نفسه، بعيدًا عن التأثيرات الخارجية التي تحاول تشكيله وفق معايير المجتمع.

إذا كانت كذبة نيسان مجرد مزحة بريئة تستمر ليوم واحد، فإن الخداع الذاتي قد يكون كذبة يعيشها الإنسان طوال حياته. كثيرون يهربون من مواجهة أنفسهم، إما خوفًا من الحقيقة أو راحة في البقاء ضمن منطقة الأمان. فالبعض يقنع نفسه بأنه سعيد بينما هو غارق في التعاسة، وآخرون يعيشون وفق توقعات الآخرين بدلًا من اتباع شغفهم الحقيقي.

يُطلق على هذه الظاهرة في علم النفس “التنافر المعرفي”، حيث يحاول العقل التوفيق بين الأفكار المتناقضة لتجنب الشعور بعدم الارتياح. لكن الحقيقة تظل حاضرة، حتى لو حاول الإنسان إنكارها.

في زمن تُباع فيه الأكاذيب على أنها حقائق، وتُزيف فيه الصور لتعكس واقعًا غير حقيقي، يصبح السؤال الأكثر أهمية: هل نعرف أنفسنا حقًا؟ هل نحن صادقون مع ذاتنا أم نعيش في كذبة مستمرة؟

الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن تغييرها أو التلاعب بها هي إدراك الإنسان لذاته. فمعرفة الذات ليست مجرد فكرة فلسفية، بل هي حجر الأساس لكل قرار، وكل علاقة، وكل خطوة في الحياة. بينما يمكن أن يخدعنا الآخرون – ولو ليوم واحد – في كذبة نيسان، فإن الخداع الحقيقي هو أن نخدع أنفسنا طوال العمر.

يُقال إن الحقيقة تحرر الإنسان، ومعرفة الذات هي المفتاح لهذا التحرر. ربما تكون كذبة نيسان فرصة للضحك والتسلية، لكنها أيضًا تذكير بأن الوهم قد يكون أقرب إلينا مما نظن. في نهاية الأمر، قد تكون الحقيقة الوحيدة التي تستحق البحث عنها ليست في العالم الخارجي، بل في أعماق النفس.

مواضيع ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *