الأردن وصناعة المستقبل

الأردن وصناعة المستقبل

أ. د. محمد صايل الزيود، قسم القيادة التربوية والأصول، كلية العلوم التربوية، الجامعة الأردنية

بمناسبة عبور الدولة الأردنية مئويتها الأولى نحو المئوية الثانية وللبناء على الإنجازات التي تحققت رغم شح الإمكانات وصعوبة الظروف الاقتصادية، فإن من المناسب اليوم أن نرى انطلاقة نحو المستقبل من خلال معاينة للتجربة الوطنية بكل تفاصيلها والاستفادة من تجارب العالم المتقدم، خاصة الدول التي حققت انطلاقات من رحم ظروف وتحديات صعبة تقارب تجربتنا الوطنية. 

وقد تكون تجربة سنغافورة الأقرب لنا وبالإمكان أن نتبع خطاها في النهضة لتميزها في مسيرة التقدم رغم ضخامة التحديات والعراقيل والمحن والمتمثلة بالفقر والبطالة وندرة بالموارد المادية والبشرية، وكل ذلك لم يقف في طريق تقدمها وتمكنت من تجاوزها بفعل إجراءات عملية موضوعية وطنية. 

هذه الإجراءات الموضوعية بدأتها بإرادة وطنية للنهضة والتقدم رافقها وضع رجال بمواقع المسؤولية من الأكثر جدارة واستحقاق وممن يمتلك العلم والمعرفة والتخصصية والحنكة والخبرة والإرادة والعزيمة والنزاهة والشفافية لقيادة مؤسسات بلادهم بتجرد بعيدا عن المكاسب والمغانم والمواقع والمصالح الشخصية. فالهم الذي حمله هؤلاء تجلى بحمل المسؤولية لغايات وطنية خالصة بعيدا عن ثقافة تسيير الأعمال وثقافة الاستعراض. ورافق هذا الإجراء تكريس ثقافة أن المسؤولية واجب وطني عليك أن تنهض به بحكمة وعقلانية ومصلحة وطنية عليا وأن تتجرد من مصالحك ومطامحك الشخصية وأن تتحلى بالجرأة في العمل الذي يخدم الوطن لا غير. وبأن من يرافق هؤلاء في قيادة مؤسساتهم يجب أن يمتلكوا ذات الصفات والخصائص والمؤهلات لأن القوي يحتاج لفريق من الأقوياء لمعاونته، فلا مكان في مؤسسات الوطن إذا أردنا نهضتها للضعيف أو للوصولي أو المتسلق أو المتكسب أو الساعي لمنصب بأي ثمن. 

إن ما يميز الإجراءات التي اتخذتها هذه الدول للوصول للنهضة بروز مستوى عالي من الممارسة الأخلاقية المهنية لهؤلاء الرجال في مؤسساتهم وخلال مسيرتهم العملية والتي ترتكز على احترام منقطع النظير للقانون وسيادته على نحو جعل خرق القانون وتجاوزه أمر لا يمكن تصوره أو تقبله ضمن بيئات العمل ولاحقا في الحياة العامة، أي أن القانون هو الفصل في كل شأن من شؤون حياة هذه الدول والذي بدأ بإرادة حقيقية لم تقبل التنازل أو التراخي لاعتبارات مجتمعية أو عائلية أو مادية نفعية.

ويرافق ذلك مستوى رفيع من المساءلة والمحاسبة ضمن ضوابط قانونية تتسم بالشفافية والعدالة والنزاهة فلا مجاملة ولا واسطة لمن يخل بواجباته الوظيفية أو لمن يقصر في مهام عمله تحت أي ظرف كان. وبأن النهضة الحقيقة التي سارت عليها هذه الدول تكرست بنظام فعال وكفؤ للمساءلة والمحاسبة يرافقه قيمة عالية وتقدير لمن ينجز ولمن يخدم ولمن ينهض بمؤسسته أو قطاعه، فمن يتفانى بعمله فإن القانون والنظام القائم يوفر له الدعم والترقية وإثبات الذات في مواقع رفيعة أخرى.

كما أن إجراءات داعمة أمر غاية في الأهمية، فلن ينجح وجود رجال دولة بمواصفات تفرض امتلاكهم للعلم والمعرفة والجدارة والاستحقاق والنزاهة والإرادة إلا من خلال جهد وطني يقوم على بناء ثقافة الجدارة والاستحقاق وثقافة العمل والإنجاز واحترام القانون والقبول بالمساءلة والمعرفة العميقة بالواجبات المهنية والالتزام الأخلاقي بأدبيات خاصة بالمواطنة جوهرها التفاني عند القيام بالوجبات والانتماء العميق للوطن ومقدراته، وهذا لن يرى النور إلا من خلال نظام تربوي يأخذ الأولوية الأولى على مستوى الدولة بحيث يخضع للتطوير والتحسين والمراجعة الدائمة والمواكبة لأفضل الممارسات التربوية العالمية ليتمكن من صناعة النهضة الوطنية المأمولة.

يشير واقع حال كل من ماليزيا وسنغافورة خلال فترة الستينيات والسبعينات وواقع حالهم اليوم إلى مفارقة كبيرة، حيث وصلت أنظمتهم التربوية لتكون من أفضل أنظمة التعليم على الصعيد الدولي ووصلت اقتصادياتهم لتكون من أغنى الاقتصاديات بعد أن كانت من أفقرها وكانت تعتمد فقط على الزراعة البدائية والصناعة التقليدية وهي اليوم تملك اقتصادات صناعية متقدمة وصلت لناتج وطني إجمالي قارب الأربعمائة مليار دولار، ووصلت معدلات البطالة إلى معدلات متدنية وتجاوزت مشكلة الفقر بكل جدية وعزم. 

إن هذه الإجراءات إذا ما عُممت وتم تبنيها على نطاق واسع وفي جميع القطاعات وبإرادة حقيقة فإنها رغم بساطتها كفيلة أن تصنع لنا نهضة وطنية بأقصر الطرق. 

 

 

مواضيع ذات صلة