العمل على تكريس الديمقراطية ثقافة
العمل على تكريس الديمقراطية ثقافة
يتناول محمد بالراشد في بحثه “التربية على حقوق الإنسان ودورها في بناء ثقافة الديمقراطيّة بالعالم العربي” قضية الديمقراطية وضرورة أن تكون ثقافة. ويضيف ” إذا كانت كثرة تداول لفظ الديمقراطية على ألسنة المختصين وغيرهم توحي بوضوح المعنى، فإن ذلك الرأي لا يبدو صائبا، لأن “الديمقراطية ينطبق عليها الوصف البليغ “السهل الممتنع”، حيث يخيل للمرء عندما يرى الأكداس الهائلة من الكتب والدراسات والمقالات التي تناولتها، وكذلك عندما يستعرض التجارب المتنوعة لتطبيق الديمقراطية، يخيل إليه أن الكلام عن الديمقراطية تحصيل حاصل ولا يحتاج إلا إلى جهد الجمع والتبويب، خاصة وأن الكل يكاد يتفق على تعريف واحد للديمقراطية يقترب من المعنى الحرفي لهذه الكلمة التي أتت من اندماج كلمتين من اللغة اليونانية القديمة تعنيان “حكم الشعب”، فالكل يقرأ الديمقراطية هي حكم الشعب بالشعب وللشعب “
ويشير الراشد” إلى أن الديمقراطية ليست على تلك الدرجة الكبرى من وضوح المعنى مثلما تبدو للكثيرين من المختصين ومن غير المختصين، ولا أدل على أنها حمالة معاني من تلك الاستخدامات المتعددة لهذا اللفظ، فنحن نتحدث عن لديمقراطية والديمقراطية التوافقية والديمقراطية التشاركية والديمقراطية الشعبية وديمقراطية الجوار وديمقراطية النخبة، بل حتى عن الديمقراطية الدينية..الخ، لا بل إن الديمقراطية ألصقت – في كثير من الأحيان- بنظم سياسية مختلفة، بعضها لا يمت لجوهر الديمقراطية بصلة. والأمثلة في هذا السياق عديدة وفي مقدمتها النظم السياسية العربية التي ظلت سائدة لفترة طويلة. ولعل تعدد المعاني هذا كان من بين العوامل التي شكلت دافعية داخلية لعالم الاجتماع الفرنسي آلان توران Alain Touraine ليضع مصنفه الشهير الموسوم “ما هي الديمقراطية: حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية ؟” لاسيما وأن توران اعتبر أن انهيار المنظومة السوفياتية ومنظومة دكتاتوريات أمريكا اللاتينية أدى إلى انتصار اقتصاد السوق أكثر منه لانتصار الديمقراطية.
ويتابع بالقول ” إذا كانت الديمقراطية- ومثلما حددها مبتكروها اليونانيون- نظام حکم، أو أسلوب حکم، يكون الشعب محوره، فإن هذا المعنى لم يعد كافيا اليوم، بمعنى أن الديمقراطية ” لم تعد تنحصر في مفهوم نظام الحكم، بل انتقلت لتصبح أسلوبا للممارسة السياسية، وصفة لأسلوب الحركة السياسية أو الاجتماعية لفرد أو مجموعة أو نظام، بل أصبحت نمط سلوك حياتي وصفة للعلاقات الاجتماعية بين الأفراد أو بين المجموعات أو داخل هذه المجموعات، فأصبح المرء يسمع عن أسلوب ديمقراطي للعمل السياسي وعن علاقات ديمقراطية بين القوى، وعن أسلوب ديمقراطي وعن الحوار ……الخ”.
وبمعنى أن الديمقراطية متعددة الدلالات في عالمنا الراهن، وأن هذا الطابع التعددي يتيح مقاربتها على الأقل من زاويتين مختلفتين، حيث “باستطاعتنا أن نعرفها تعريفا ضيقا كإجراء يتمثل في إمكانية اختيار الحكام عن طريق انتخابات حرة ونزيهة، ولكن نجاح العملية الديمقراطية في المنطقة العربية مرهون بفهمها لا كوسيلة سلمية لتعيين الحكام فحسب، بل أيضا كقيم موجهة لسلوك الأفراد والجماعات. ومن هنا تبرز أهمية آليات التنشئة الاجتماعية كالمدرسة والأسرة ووسائل الإعلام والجمعيات الدفع العملية الديمقراطية وتعزيزها”.
ويشير الراشد” بعبارة أخرى، إن الديمقراطية، وإن شملت – وهو أمر بديهي- انتخاب الحكام، فإنها لا تقتصر على ذلك، باعتبار أن الانتخاب مكون لا غير من مكونات الديمقراطية التي هي بالأساس “ثقافة بمعنی مجموعة من القيم والمعتقدات توجه سلوك الأفراد حكاما ومحكومين نحو تحقيق الصالح العام في إطار توافقي وسلمي”. بمعنى أن “الديمقراطية الحقيقية لا تنحصر في الانتخابات مهما كانت نزيهة وشفافة، كما أنها ليست مجرد “حكم أغلبية” .. بل هي، أولا وقبل كل شيء، وسيلة لتمثيل الشعب وخدمة الشأن العام؛ أي أن آلية الانتخاب. على الرغم من أهميتها الإجرائية- لن تعبر وحدها، حتى في أرقى الأنظمة الديمقراطية في العالم، عن “سيادة الشعب، والدليل ما تعرفه المجتمعات الغربية من صعود للتيارات الشعبوية التي تتبنى قيما مضادة في غالب الأحيان لقيم الديمقراطية.
وانطلاقا مما تقدم نقول، إن “الديمقراطية ليست قرارا سياسيا أو تشريعا دستوربا أو قانونيا، بل هي قبل كل شيء ثقافة وقيم ينشأ عليها أفراد المجتمع ويتبعونها في سلوكياتهم اليومية وفي نظام تفاعلاتهم داخل المؤسسات الاجتماعية والثقافية أولا، وفي مؤسساتهم السياسية ثانيا”. أي أن السياسي وعلى أهميته يظل وثيق الصلة بأسلوب اشتغال المؤسسات الاجتماعية والثقافية، فإن كانت هذه الأخيرة تنشر ثقافة الخوف والطاعة العمياء، فإن الحقل السياسي بدوره سيكون امتدادا للحقل الاجتماعي الثقافي.
ويضيف الراشد “ارتبطت الديمقراطية بشكل الحكم، وطبيعة علاقة الأفراد بالسلطة السياسية، ولكن “الديمقراطية لا تعني هذا فحسب، ولا يقف مضمونها عند الإطار السياسي من شكل نظام الحكم ومن توفر المؤسسات السياسية كالمجالس النيابية والبلدية والقروية، ومن قيام الأحزاب السياسية والتنظيمات العمالية والمهنية، بل إن لها من وراء ذلك مضمونا أخلاقيا يستمد مرجعيته من منظومة من المبادئ والقيم المشتركة، يصدر عنها سلوك الأفراد والجماعات ، ويحكم تصرفهم في هذا المكسب الثمين، وكيفية تعاملهم مع المؤسسات من أجل ذلك يتحدث المفكرون السياسيون عن “ثقافة ديمقراطية” وعن “بيئة ديمقراطية”.
هكذا، لم يعد المعنى السياسي لوحده يعبر عن الديمقراطية، وبالتالي فإن اختزالها في الانتخابات والتداول السلمي على السلطة يحمل ضربا من التعسف، لأن من شأن ذلك أن يصير الديمقراطية مجالا للتنافس غير النزيه، ونحن نسمع اليوم كثيرا عن تأثير المال الفاسد في الانتخابات شراء الأصوات )، بمعنى أن من لم يتشبع بثقافة الديمقراطية لن يتردد في ممارسة سلوكيات مضادة للقيم الموجهة للفعل الديمقراطي (شراء أصوات الناخبين / بيعها).
قد تفضي هذه النزعة الاختزالية، في نهاية المطاف إلى وصول من لا يؤمن بالديمقراطية إلى الحكم، فيستغل آلية من آليات الديمقراطية التي هي الانتخاب، ويكفي أن نعيد التذكير بأن النازيين وصلوا إلى الحكم عن طريق الانتخابات وأن الشعبويين في أوروبا والغرب بشكل عام يستغلون الديمقراطية لنشر أفكار كراهية الأجانب والوافدين (الغرباء). فضلا عن ذلك كله يمكن أن يؤدي تغييب الثقافة الديمقراطية إلى تنمية ما يعبر عنه في تونس ما بعد الثورة ب” السياحة الحزبية”، وهي مصطلح يعني انتقال نائب منتخب في مجلس النواب من حزب إلى حزب آخر ضاربا عرض الحائط بالعقد المعنوي والأخلاقي الذي يربطه بالناخبين والذي يتمحور حول برنامج حزب معين وحول أهداف محددة وخيارات معينة قبل بها الطرفان الناخب والمنتخب. ففي انتقال ذلك النائب إلى حزب آخر بعد حصوله على أصوات منحته مقعدا في البرلمان تجاهل لكل التزام يربطه مع ناخبيه، ودليل قاطع على غياب الثقافة الديمقراطية التي يفترض أن تحكم تصرفات المنتخبين قبل الناخبين.
لقد جعل غياب الثقافة الديمقراطية الكثير من النواب متحررين من كل التزام يربطهم بناخبيهم، ومن ثم عجزوا عن أن يكونوا قدوة للناخبين ولا سيما منهم الشابات والشبان الذين أثروا لاحقا عدم المشاركة في الحياة السياسية في تونس (عبر عنها ضعف نسب الناخبين من الشباب في انتخابات 2014 وفي الانتخابات البرلمانية لسنة (2019
إن “الديمقراطية حق أصيل لكل مواطن وليست منحة من بها على الشعب وينتقص منها”. وهي فضلا عن ذلك وبالأساس “ممارسة يومية، سلوك يومي نلحظه ونقدر من خلاله مدى تطور الثقافة السياسية وممارسات الأفراد والمجموعات في مجتمع ما” . وبعبارة ثانية، إن الحكم على الديمقراطية لا يكون فقط بالاستناد على النصوص التشريعية ، ولا على الانتخابات كآلية لاختيار الحكومات، وإنما على سلوكيات الأفراد والجماعات والتي يفترض أن تعكس ثقافة الديمقراطية القائمة بالأساس على حقوق الإنسان (الحق في المشاركة الحق في الانتظام السياسي والاجتماعية/ الحق في تعليم ذي جودة / الحق في شغل يضمن الكرامة الحق في الاختلاف/ …الخ(
وبناء على ما سبق، فإن العمل على تكريس ثقافة الديمقراطية التي هي صمام الأمان الوحيد للمحافظة على ماهية الديمقراطية باعتبارها نمط حياة يترجم في مواقف يجسدها ما يسمی بالسلوك الديمقراطي، الذي يقوم على تفهم الآخرين والتفاهم معهم وعلى تفادي اعتماد العنف سبيلا لحل الخلافات حتى تكون “الديمقراطية وسيلة لنمو المجتمع وتقدمه من حيث إنها تعقلن الصراعات المجتمعية بين مكوناته وتوجهها نحو حالة تنوع إيجابي بالنسبة لحركية الحياة فيه. الديمقراطية هي الانطلاق من تنوع واختلاف مقبولين والاتجاه نحو انسجام يضمن الحرية والاختلاف ولا يتأسس على قمعهما”، وأنه لا وجود للديمقراطية “خارج الاعتراف بتنوع المعتقدات والأصول والآراء والمشاريع”.
يقتضي الخروج بالديمقراطية من دائرة نظام الحكم إلى نمط حياة يقوم على التنوع والاختلاف، وعلى تعدد الآراء ووجهات النظر والمشاريع، تبيئة حقوق الإنسان وتوطينها لدى أوسع قدر ممكن من الناس من مختلف الشرائح الاجتماعية، وهو ما لا يتحقق إلا من خلال التربية على حقوق الإنسان، لما للمؤسسة التربوية من قدرة على الوصول إلى كافة فئات المجتمع وشرائحه، ولما لها أيضا من قدرة على ملامسة البعد الوجداني- السلوكي لدى الناشئة (الأهداف الوجدانية – السلوكية بلغة المختصين في البيداغوجيا).
وهكذا نخلص إلى أن الديمقراطية ثقافة وأن هذه الثقافة “تنهض على ثلاث قيم أساسية هي: التعددية والحرية والعدل”، وأن هذه القيم تتطلب اكتساب الأفراد والمجموعات قيم حقوق الإنسان والالتزام بهاء فالعمل من خلالها على تحسين أوضاع الناس بعيدا عن كل تفكير اخترالي يجعلها تتجه إلى خدمة فئات اجتماعية دون غيرها، أو يمكن فئات من توظيفها لصالحها مستفيدة من نصوص تقر الديمقراطية ومن غياب ثقافة ديمقراطية تقوم على النقد والتواصل الفعال وعلى عمليات كسب التأييد للقضايا الإنسانية والتنموية.
ليست “الديمقراطية الحقيقية وصفة جاهزة طلب من خبراء ومختصين، ولا تقليد لنماذج مسبقة، أو قرارا فوقياً لسلطة متنفذة، أو إملاء خارجيا لجهات أو مراكز قرار مهيمنة على المستوى الدولي… الخ، وإنما هي “ثقافة” بالمعنى الاجتماعية الشمولي لمدلول الثقافة. إنها منظومة متكاملة من القيم والرموز والاتجاهات والمعايير المواقف والتصورات ورؤى العالم… يستلزم بناؤها، ضرورة استنباتها ذاتيا، أي جعلها
ضمن سيرورة ممنهجة، إرادية وقصدية وهادفة من التربية والتعليم والتكوين، والتنشئة الاجتماعية والثقافية والسياسية – تنبثق من خصوصيات الذات ومقوماتها السوسيو-حضارية والتاريخية المحلية منها والكونية”
المصدر: بالراشد، محمد (2020). التربية على حقوق الإنسان ودورها في بناء ثقافة الديمقراطيّة بالعالم العربي، مجلة جيل حقوق الإنسان، لبنان.