حديث في أخلاقيات القيادة التربوية
حديث في أخلاقيات القيادة التربوية
الأستاذ الدكتور راتب سلامة السعود، أستاذ السياسات والقيادة التربوية، كلية العلوم التربوية، الجامعة الأردنية
إن الناظر إلى حال كثير من المنظمات المتميزة، سواء أكانت تربوية أم غير تربوية، وفي مختلف أقطار العالم، يجد أن أحد الأسباب الرئيسة وراء تقدمها هو قيادتها الفاعلة. وقد أدركت المنظمات التربوية هذه الحقيقة التي لم تعد بحاجة إلى برهان؛ ألا وهي دور القيادة التربوية في زيادة كفاءة المنظمة التربوية، وتحسين فاعلية أدائها، وتجويد عملياتها. وقد اتجهت كثير من الدول إلى تطوير التعليم وتحديثه عن طريق التفكير في إيجاد قيادات تربوية فاعلة ومدربة تدريباً يتناسب ومتطلبات العصر. وقد عمدت الأنظمة التربوية المتقدمة إلى التأكيد على ضرورة توافر مواصفات ومقدرات أساسية لدى القائد التربوي، لكي يستطيع أن يمارس دوره القيادي في التأثير في الآخرين، وتوحيد جهودهم وحشد طاقاتهم واستثمارها من أجل تحقيق الأهداف التربوية. إن تأثير القائد في العاملين معه لا يتأتى إلا من خلال السلوك القيادي المشبع بالجوانب الفنية، وهذا بدوره لا يتأتى إلا من خلال مجموعة من المقومات، ذات العلاقة بشخصية القائد، والتي تندرج في مجالين رئيسين اثنين، وهما: مقومات ذات علاقة بكفايات القائد، ومهاراته الفنية العملية التطبيقية، مبنية على حُسن إعداده وتدريبه وتنميته، مما يُتيح له أداء عمله بحرفية عالية. ومقومات ذات علاقة بسلوكيات هذا القائد وأخلاقياته، والتي من أهمها: أن يتمثل السلوك القويم، وأن يكون قدوة حسنة لمرؤوسيه، فضلا عن ضرورة تحليه بالصدق، والعدل، والصراحة، والجرأة، والشجاعة، والصبر، والثبات على المواقف، والابتعاد عن المزاجية. تلكم هي الأخلاق المطلوب تمثلها من عموم بني البشر، وفي مقدمتهم القادة التربويون. والأخلاق هي مجموعة المبادئ والمعايير والقيم التي تحكم سلوك الفرد أو المجموعة فيما يخص الصواب أو الخطأ، وكذلك الجيد أو السيئ في المواقف المختلفة. ومن مصطلح الأخلاق انبثق مفهوم السلوك الأخلاق، الذي يمثل جوانب تتعلق بصحة اختيارات الفرد، وسلامة قراراته، وتبعده عن الخطأ والسوء. وتتجسد الجوانب الأخلاقية بشكل واضح عند رؤيتها من خلال التأثر بالقوانين، والخيار الحر للفرد. أما الأخلاقيات الإدارية، فإنها تُشير إلى معايير السلوك التي تقود المديرين، وتوجههم في عملهم. ولا يقف الأمر عند المديرين، بل يتجاوز ذلك إلى العاملين في المنظمة، والمنظمة ذاتها. وعليه، فإن أخلاقيات القيادة التربوية لا مندوح عنها إن ابتغينا الحصول على أعلى درجات الفاعلية والإنتاجية على صعيد المنظمة من جهة، وعلى أعلى مستويات الرضا النفسي، والروح المعنوية على صعيد القائد ذاته، والعاملين معه، من جهة أخرى. مفهوم أخلاقيات القيادة: قبل الخوض في مفهوم أخلاقيات القيادة، يبدو من النافع أن نوضح أولاً مفهوم الأخلاق، فمنها انبثقت أخلاقيات القيادة. إن مصطلح الأخلاق Ethics يعني مجموعة المبادئ والمعايير والقيم التي تحكم سلوك الفرد أو المجموعة في ما يخص الصواب أو الخطأ، وكذلك الجيد أو السيئ في المواقف المختلفة. كما ينظر إلى الأخلاق على انها مجموعة من القواعد والمعايير التي عندما تصبح ثابتة وتحكم سلوك أفراد المجتمع، تشكل جزءاً من ثقافة المجتمع وتتجسد في عاداته وتقاليده وقوانينه. فهي تنعكس على الاتجاهات الاجتماعية، وتدعم الوازع الأخلاقي فيه. وللمعايير الأخلاقية Ethical Standards وظيفة خاصة في الحياة العملية؛ ذلك انها تستخدم كدليل للأفعال، ويستخدمها الفرد ليحكم على أخلاقه وسلوكه. وهي المبادئ التي تقرر ما يدركه الفرد أو المجموعة من أسباب أخلاقية للقيام بعمل معين دون الآخر. وعلى الصعيد الشخصي، فإن الأخلاق تعزز المبادئ التي توجه سلوك الفرد في خياراته المختلفة. أما في الحياة العملية فإن السلوك الأخلاقي Ethical Behavior يمثل جوانب تتعلق بصحة اختيارات الفرد، وسلامة قراراته، وتبعده عن الخطأ والسوء. وتتجسد الجوانب الأخلاقية بشكل واضح عند رؤيتها من خلال التأثر بالقوانين، والخيار الحر للفرد.
وتبرز المعضلة الأخلاقية Ethical dilemma عندما تكون تصرفات الأفراد أو المنظمة مضرة للآخرين، أو غير نافعة لهم. أما الأخلاقيات الإداريةEthics Managerial، فإنها تشير إلى معايير السلوك التي تقود المديرين، وتوجههم في عملهم. ولا يقف الأمر عند المديرين، بل يتجاوز ذلك إلى العاملين في المنظمة، والمنظمة ذاتها. ويمكن الإشارة إلى ثلاثة جوانب أساسية في هذا المجال، وهي: 1. طبيعة تعامل الإدارة والمنظمة التربوية مع العاملين: ويقصد بها كيفية تعامل الإدارة والمنظمة مع العاملين فيها، وبخاصة في ما يتعلق بالتعاقد معهم، وتعيينهم، أو تسريحهم من العمل، وكذلك الرواتب والأجور وظروف العمل واحترام خصوصية العاملين. على إن الواقع العملي يشير إلى أن بعض المديرون يميزون بين العاملين بسبب انتمائهم العرقي، أو الديني، أو النوع الاجتماعي، أو المعتقد السياسي. وغني عن القول أن هذا السلوك، عدا عن كونه غير قانوني، فإنه يمثل سلوكاً غير أخلاقي. 2. طبيعة تعامل العاملين مع المنظمة التربوية: ونعني بذلك كيفية تعامل العاملين أو الموظفين مع منظمتهم، وبخاصة في مجالات الإخلاص في العمل، والتفاني في أداء الواجبات، والمحافظة على سرية العمل، وما إلى ذلك. وتجدر الإشارة هنا إلى ظهور بعض القضايا والإشكالات المتعلقة بما يعرف بالنزاهة، والثقة، وحماية أسرار العمل، وكذلك ما يعرف بصراع أو تضارب المصالح Conflict of Interest. ومن الأمثلة على صراع أو تضارب المصالح بين العامل أو الموظف من جهة، والمنظمة من جهة أخرى، عندما يقبل هذا الموظف هدية من أحد الأطراف ذات العلاقة المباشرة بالعمل، والتي قد تقود إلى عدم التعامل مع ذلك الطرف على قدم المساواة لأطراف أخرى مشابهة في مصالحها عند هذا الموظف. ولا يفوتنا التنويه إلى إن إفشاء أسرار العمل، والمنظمة، أو الاستخدام الشخصي لممتلكاتها وموجوداتها، خارج ما تنص عليه القوانين، يعد عملاً لا أخلاقياً وغير نزيه. 3. طبيعة تعامل المنظمة التربوية والعاملين فيها مع الأطراف الأخرى: ونعني بذلك كيفية تعامل المنظمة والعاملين فيها مع جميع الأطراف ذات العلاقة بالمنظمة، سواء المستفيدون من خدماتها (كالطلبة وأولياء أمورهم وقادة سوق العمل)، أم المنظمات التربوية المثيلة، أم الجهات الأخرى التي تتعامل معها المنظمة التربوية (كموردي الطعام والشراب لمقصف المدرسة، أو مطعم الجامعة أو كتب المكتبة أو تجهيزات المختبرات وغيرها). وهنا يتجسد السلوك الأخلاقي عند التعامل مع هذه الجهات، وغيرها. إذ قد يتضمن هذا التعامل بعض الرفض أو عدم التقبل أو العنف اللفظي أو غيره، أو الغموض في إطار الإعلان والترويج والإصلاح المالي وغيره. القيادة الأخلاقية: يعد موضوع الأخلاق في القيادة من المواضيع التي ربما يشعر الفرد أنها معروفة ضمناً، ومن خلال الخبرة، ولا ضرورة لبذل الجهد في دراستها. والمشكلة الرئيسة التي تواجه علم الأخلاق التطبيقي هي أن الباحثين والعلماء يشعرون أحياناً أن القيم الأخلاقية المتعلقة بحقولهم وتخصصاتهم يمكن إدراكها وممارستها من خلال معرفتهم العملية وحسهم العام، أو من خلال حدسهم الشخصي. هذا بالإضافة إلى أن الكتابات الفلسفية حول موضوع الأخلاق غالباً ما تهمل أو ترفض لأنها تبدو غير ملائمة وغير مفيدة للأفراد الذين يكتبون عن الأخلاق في مجال تخصصاتهم.
ويدعم وجهة النظر هذه ما أشارت اليه الباحثة في مجال الأخلاقيات والقيادة جوان بريدجيت سيولا (Joanne Ciulla) من أن المؤلفين والباحثين في مجال القيادة لا يبذلون جهداً كافياً في الكتابة عن الأخلاق، وتأخذ مثالاً على ذلك كتاب جوزيف روست (Joseph Rost, 1991) بعنوان “القيادة في القرن الحادي والعشرين”. اذ وجدت أن فصل الأخلاق في هذا الكتاب مختلف عن الفصول الأخرى بقلة مراجعه. وفي فصل الاخلاق هذا، يشير روست إلى أنه لا يوجد أي نظام أخلاقي قيمي يساعد القادة والأتباع في اتخاذ القرارات حول التغيرات التي يريدون تحقيقها في منظماتهم. كما أنه ينتقد جميع النظريات الأخلاقية ويتهمها بأنها عديمة الفائدة. ويضيف روست أن أنظمة الفكر الأخلاقي التي استخدمت في الماضي والتي ما زالت تستخدم غير ملائمة لصنع القرارات والأحكام الأخلاقية عن محتوى القيادة. لقد أشارت سيولا (Ciulla) الى ان مراجعة الأدب التربوي المتعلق بأخلاقيات القيادة في مجالات علم النفس والتربية والدين والفلسفة والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والعلوم السياسية لم تقدم أفكاراً أو مناقشات متعمقة. اذ كانت المقالات إما عن مشكلة معينة أو جانب معين من القيادة، أو أنها مقالات تمجيدية عن أهمية الصدق والأمانة في القيادة. وتمضي كيللا قائلة أن مناقشة الأخلاق في أدبيات القيادة مجزأة ومبعثرة، بحيث يصعب وجود مرجع لأعمال سابقة عن الموضوع، حتى أن الدارس يشعر أن معظم المؤلفين يكتبون عن الموضوع وكأنهم يبدأون من نقطة الصفر. إن الحديث عن السلوك الأخلاقي قد أوضح بما لا يدع مجالا للشك أهمية القيادة، وقدرتها ليس على الاحتكام للسلوك الاخلاقي في ممارساتها القيادية فحسب، بل وفي ترسيخ هذا النمط السلوكي لدى المرؤوسين، واشاعة ثقافة السلوك الأخلاقي، ومحاربة السلوك غير الأخلاقي في المنظمة. لقد تزايد اهتمام المنظمات، لا بل والأسر والمجتمعات بالجوانب القيمية والأخلاقية في سلوك الأفراد والمؤسسات، وبخاصة في مجالات التربية والإدارة. ومن هنا اتسع نطاق الدعوة في السنوات الأخيرة إلى ضرورة اعتبار القيم والأخلاق مكوناً أساسياً من مكونات القيادة والإدارة. وتصاعد الاهتمام برؤية المؤسسة (Vision) ورسالتها (Mission)، اللتين تربطان فيما بين الأبعاد القيمية والمهنية للمنظمة، كما ازداد الاهتمام بثقافة المؤسسة. ونتج عن هذا الاهتمام ولادة مفهوم القيادة الاخلاقية. والقيادة الاخلاقية Ethical Leadership نمط قيادي يرتكز إلى أخلاقيات القادة، وفيه تفوق الأخلاق مفاهيم القوة والسلطة، لتعزز استناد القائد والعاملين إلى طموحات وحاجات متبادلة. إنها ذلك النوع من القيادة الذي يستطيع أن يحدث تغييراً اجتماعياً يلبي الحاجات الحقيقية للتابعين. وكنمط قيادي، تتضمن القيادة الأخلاقية مفاهيم معيارية وسياسية ديمقراطية، ومفاهيم رمزية للقيادة. وفي القيادة الأخلاقية تمثل القيم جزءاً مركزياً من مجمل الممارسات القيادية والإدارية. وتفترض القيادة الأخلاقية أن الجوهر الأساسي للقيادة ينبغي أن يتركز على قيم القادة، وأخلاقهم. *يجوز الاقتباس واعادة النشر للمقالات شريطة ذكر موقع شؤون تربوية كمصدر والتوثيق حسب الاصول العلمية المتبعة.
- لا يجوز الاقتباس واعادة النشر للمحتوى المنشور إلا بموافقة رسمية من موقع شؤون تربوية.