الحرية الأكاديمية

الحرية الأكاديمية 

د. محمد علي الشبول، أ. د. محمد صايل الزيود

تشكل الحرية الأكاديمية المحور الرئيس بالنسبة للجامعة كونها الوسيلة الأساسية لتحقيق تميزها وقيامها بدورها في التعامل مع المعرفة إنتاجاً ونقلاً وتطبيقاً، فمن الصعب تصور جامعة بدون وظيفة التعامل مع المعرفة وبدون حرية أكاديمية، فالعلاقة بين الجامعة والمعرفة والحرية الأكاديمية علاقة وطيدة عضوية. فبالحرية الأكاديمية والمعرفة تنهض الجامعة وتزدهر، وبالحرية الأكاديمية تنتج المعرفة العلمية الحقة، لذلك فإن مبررات وجود الحرية الأكاديمية ومطالبة الجامعيين بحق التمتع بها أمر لم يغب عن أي جامعة تنتج المعرفة وتبني الإنسان وأصبح لها حضورها اللافت بين جامعات العالم.

تشير الحرية الأكاديمية بالنسبة للجامعة الى إستقلالية الجامعة وتمتعها بحرية اختيار نظامها وبرامجها ومناهجها وطرائق تدريسها واختيار هيئة التدريس فيها وعدم وضع قيود على ما تدرسه، ولهذا فإن الأمور التي تتطلبها الحرية الأكاديمية توفر الضمانات الكافية للأساتذة ضد الضغط والتهديد بالفصل أو الطرد أو العقوبة (شارل، 1971). كما أن الحرية الأكاديمية هي حرية الأستاذ الجامعي في تدريسه وفي بحثه وفي التعبير عن آرائه ونظرياته تعبيراً حراً دون أن يكون عرضة للاضطهاد بسبب الآراء التي يأخذ بها أو يدرسها، كما تشمل حرية الجامعة في إدارة شؤونها الداخلية واختيار أفراد هيئتها التدريسية (عقراوي، 1986). وتشير كذلك إلى حرية أعضاء الهيئة الأكاديمية فرادى وجماعات في سعيهم للمعرفة والتطور العلمي وتبادل المعلومات من خلال البحث العلمي المنظم والدراسات والمناقشات والتوثيق والإنتاج، والتأليف، والترجمة والخلق والإبداع والتعليم والمحاضرات). إن الحرية الأكاديمية تمثل مجمل نشاط الهيئة الأكاديمية في أي بلد وكل ما يحيط بهذه النشاطات من أمور ثانوي باعتبارها جزء أساسي من حقوق الإنسان العالمية المعلنة من قبل الأمم المتحدة. إن مفهوم الحرية الأكاديمية يشير كذلك إلى حق المعلم أو المتعلم أو الباحث في استقصاء مجالات المعرفة والتعبير عن رأيه دون خوف أو وجل من التدخل القسري أو القيود أو الطرد، فالحرية الأكاديمية تتساوى مع حرية الكلمة وحرية الصحافة وحرية العبارة كصفة جوهرية يتميز بها المجتمع الديمقراطي (شقير، 2003).

وتقرن الحرية الأكاديمية بالجامعة، وبوظائفها الثلاث المعروفة وهي: التعليم، البحث العلمي، والخدمة العامة “خدمة المجتمع” وبهذا يقع على الجامعة مسؤولية توفير السبل المختلفة لضمان تحقيق هذه الوظائف من أجل التفاعل المثمر لتحقيق وظائف الجامعة في مجالات التعليم، والبحث العلمي، وخدمة المجتمع، في إطار فلسفة المجتمع، ومن هنا فإن الحرية الأكاديمية ليست غاية في ذاتها بل إنها وسيلة من وسائل تنمية العملية التعليمية بمكوناتها الثلاث الأساتذة، والبرامج، والطلبة من خلال توفير تكافؤ فرص النمو المعرفي، وتطورها، وتوفير المناخ للاستفادة من منجزات العلم، والتراث الحضاري الإنساني في إثراء المناهج الجامعية، وهذا يتم من خلال ما توفره أجواء الحرية الأكاديمية من مبادئ تشمل حرية الاختيار، وحرية التفكير، والتبصر، والاستنتاج التي تتلاءم مع الطبيعة الإنسانية (الجعنيني وآخرون، 1997).

وترتبط الحرية الأكاديمية بقضيتين أساسيتين من قضايا التعليم العالي، أولى هاتين القضيتين حق الإنسان في المعرفة، وحقه في التماس الحقيقة، وحق في تفهم طبيعة علاقته بالكون المحيط به، وتقرير طبيعة هذه العلاقة، أما القضية الثانية: فهي حق الأساتذة والطلاب في تنظيم حياتهم ورسم مناهجهم في البحث والتدريس وتقرير الوسائل القائدة إلى تحقيق ذلك. فطلب الحقيقة وتعطش الإنسان إليها وشوقه إلى التعبير عنها قديماً لم يبرأ منه حتى الأنبياء الموحى إليهم فقد سأل إبراهيم ربه أن يريه كيف يحي الموتى فما سأله ” ألم تؤمن؟” قال بلى ولكن ليطمئن قلبي”.

أن ما يحرك الإنسان في سلوكه وقوله هو إرادة قوية قائمة على مبادئ واضحة من أهم المبادئ التي تضبط الحرية الأكاديمية وهو التزام المربي بالأخلاق والقيم والأفكار والبعد عن الرياء فلا يكون هناك أي تناقض أو تنافر بين ما يصدر عن المربي من رأي وفكر، ولا ينحصر ذلك على القول بل العمل، والسلوك والممارسة ليكون هذا العمل ترجمة حقيقية لكل ما يتبناه الفرد من مبادئ أو مثل ما فيكون أحق، وأقدر على ممارسة الحرية الأكاديمية بشكل مسؤول (الطويل، 1999).

وتستند الحرية الأكاديمية إلى جملة من المبادئ منها: الأمانة: وتعنى الحرص على أداء الواجب كاملاً، فهي بالنسبة لعضو هيئة التدريس أن يحرص على أداء واجبه كاملاً، ومنها أن يحافظ على علاقته مع طلبته والتي يجب أن تقوم على المودة والاحترام، و المسؤولية: وتعني الالتزام بما يوكل للإنسان من مهام والقيام بها على أكمل وجه، الفضيلة: وتعني استغراق الإنسان لأوقاته فيما يعود عليه وعلى مجتمعه بالخير والصلاح (الجعنيني وآخرون، 1997).

و الجرأة: وتعني قول الحق، والدفاع عنه دون خوف، الجرأة النابعة من الإحساس بالثقة بالنفس، والوعي والإدراك للأمور فالجرأة صفة إنسانية محببة شريطة أن تكون جرأة في قول الحق، والدفاع عنه، ولكي يستطيع الأستاذ الجامعي ممارسة حريته الأكاديمية، لا بد من أن يتصف بالجرأة، أي بإحساس عميق بالقدرة على التعامل مع الموضوع بدون خوف شريطة أن يصاحب ذلك مهارة في التواصل والاتصال مع الآخرين (أبو ليل، 1992).

ومراعاة قيم المجتمع: لأن الجامعة لا تعيش في برج عاجي فالأستاذ ينشط ويتعامل مع المجتمع، فإن من المناسب أن يأخذ الأستاذ هذا البعد الهام في حساسية أثناء ممارسته لحريته الأكاديمية في التعليم، والبحث، وخدمة المجتمع، وتصبح قيم المجتمع متغيراً هاماً في تبني المجتمع المعني لمخرجات الجامعة فإذا لم تكن هذه المخرجات مراعية لقيم المجتمع فإنه من الطبيعي أن تكون هذه المخرجات بعيدة عن احتلال بؤرة اهتمام المجتمع، وزيادة الهوة بين الجامعة والمجتمع، ولهذا فإنه من المفروض أن يدرك الأستاذ أن الحكم على القيم يتغير بتغير الزمان، والمكان، وهو ملزم بتبصر هذه القيم في كل ممارسة، وكل نشاط أو إبداع يقوم به مع التأكيد على أن هناك ثبات في درجة الالتزام بالإبعاد الحقيقة في المجتمعات البشرية، غير أن هذا لا يلغي حساسيته وضرورة مراعاتها الواعية (حمادة، 1989). والحلم: ويعني أن يحترم الإنسان من يعلم، ولا تكون ممارسته لحريته ممارسة المتغطرس فيغلب جهله حلمه، ومن أدعية الرسول عليه الصلاة والسلام “اللهم أغنني بالعلم وزيّنّي بالحلم” وبهذا فإن ممارسة الأستاذ لحريته تتسم بالممارسة الواعية المسؤولة كالتفكير والتدبير، والاعتبار، والنظر من السمات الأساسية في أستاذ الجامعة، ومتطلب أساسي أثناء ممارسته لحريته الأكاديمية. (حمادة، 1989).

بالإضافة إلى المبادئ التي تستند عليها الحرية الأكاديمية فان لها أبعاد أبرزها:

حرية التفكير: وهي ركن أساسي من أركان الحرية الأكاديمية، وتتمثل في قدرة الفرد على التعبير عن آرائه بأمانة وصدق وإخلاص، دون قيود للوصول إلى نتائج يمكن الاعتماد عليها.

حرية الاختيار: هي قدرة الفرد وتمتعه بدرجة عالية من الاستقلالية في الاختيار من الإمكانات والبدائل التي يتوصل إليها، والتي تتاح له عبر سيرة حياته مما يناسب وميوله وإمكاناته وفلسفته في الحياة مع وعيه وانفتاحه على المعايير الشخصية وتحقيق الإبداع.

حرية البحث: قدرة الفرد على إطلاق قواه الخلاقة المبدعة، وحقه في المناقشة، والنقد البناء، دون تعصب أو تحيز، مع مراعاة الموضوعية والإخلاص الحقيقية، حرية الاعتقاد: تعني أن يعيش الناس أحراراً في عقائدهم دون عوائق، وأن الدولة لا تسلب الناس حرية العقيدة، ولا تمنعهم من ممارسة حقهم فيها والدفاع عنها ضمن فلسفة المجتمع وهويته، ونظمه، وقوانينه، ولكن لا يعني الانقلاب على الأطر والضوابط والقيم، و حرية المشاركة في اتخاذ القرار (الجعنيني، 1997). إن الحرية المتاحة في أي جامعة تختلف من جامعة إلى أخرى ولكن لا بد من إعطاء الحرية الأكاديمية لعضو هيئة التدريس من خلال منحه الحق في وصف المواد التي يدرسها، وتدريس هذه المواد بالطريقة التي يراها مناسبة، وحريته في عرض أفكاره واستنتاجاته أمام طلبته دون أي تدخل أو قيد من الخارج، وحقه في نشر أبحاثه والنتائج التي توصل إليها أمام طلبته (محافظة، 1994).

فالمدرسون ليسوا موظفين بل هم أعضاء في مؤسسة تعليمية، وأن توفر الحرية الأكاديمية لهم أصبح أمراً أساسياً في عصر أصبحت فيه الديمقراطية معياراً مهماً لتطور المجتمعات وتقدمها، ليتمكنوا من البحث عن الحقيقة بشكل أفضل، وييسر لهم سبل الوصول إليها، ويقوى عندهم القدرة على النقد البناء لكل ما هو مناف للعلم، وأن لا نحكم على عضو هيئة التدريس في الجامعة من منطلق أفكاره ومعتقداته، بل من منطلق كفايته وقدرته على القيام بالتدريس والبحث والخدمة العامة (الرشدان، 2000).

إن توافر الحرية الأكاديمية يتجلى من خلال ما يمارسه أعضاء هيئة التدريس من أعمال بحرية من مثل تحضير الموضوع الذي يدرس وتطويره باستمرار والالتزام الكامل بالمواعيد والانضباط، والموضوعية (طرح وجهة نظره بعد طرح وجهات النظر الأخرى)، كذلك تحقيق مبدأ العدل فلا تحيز بينهم بسبب مرجعيات عشائرية أو إقليمية أو سياسية أو كونهم ذكوراً أو إناثاً، فالمفروض أن يكون أستاذ الجامعة كالماء لا لون ولا طعم ولا رائحة بل الكل يجد فيه مصدراً نقياً ينهل منه العلم والمعرفة وُيقتدى به في تعامله مع الآخرين (الجعنيني، 1997).

إن الحرية الأكاديمية للجامعة كمؤسسة علمية وللأستاذ الجامعي والطلبة ضرورة للنهضة والتقدم ولتقوم الجامعة بدورها في بناء الإنسان وصناعة المعرفة وتبوأ المكانة التي تليق بها كما هو شأن الجامعات العالمية المرموقة التي صعدت للعلا بفعل حرية أكاديمية لعناصر مجتمعها بلا قيد أو شرط يقف في طريقها.

  • لا يجوز الاقتباس واعادة النشر للمحتوى المنشور إلا بموافقة رسمية من موقع شؤون تربوية.

المصدر

مواضيع ذات صلة